11-4-2015

أنيتا حبيب-هورينر

إتصلت بى أمس صديقتي ريبكا (الأسماء تخيلية) – تبلغ من العمر 52 عاماً مطلقة منذ وقت قريب وهي ناشطة في دوائر (غير المتزوجين وغير المتزوجات) في تل أبيب. وحكت لي عن لقاء مع شلومو، والذي هاجر أبواه إلى إسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية. وخلال المحادثة بينهم قصت له ريبكا سيرة أبيها. عندما كان طفل طُرد من براغ إلى جيتو ترزينشتات وبعد ذلك إلى أوشفيتز. أنصت الصديق الجديد جيداً وفي النهاية قال كلمة واحدة فقط: “رائع”.

عندما قصت لي عن هذا ضحكنا مثلما نضحك دائما عندما يأتي ذكر موضوع المحرقة في محادثاتنا الهاتفية السريعة. فنحن دائما نتتطرق لهذا الموضوع. لذلك فسرت على الفور ريبكا كلمة شلومو، أراد فقط ألا يؤذي مشاعرها. فإجابته لم تكن سوى تعاطف: أنا أعلم جيداً على ماذا تتحدثين. فوالديه يهوديين من بولندا وجلسوا أيضا في معسكرات التجميع الخاصة بالنازيين.

سيبدو الأمر لمن يشاهد من بعيد أكثر غرابة، على مشارف الجنون – ولكن نحن الثلاثة أبناء لناجين من المحرقة. ويعرفنا المتخصصين بـ”الجيل الثاني” وكتبوا كثيراً عن إنتقال الصدمة النفسية إلي نفوسنا. وتكتب “جيلا لوستيجر” في رواية العائلة الخاصة بها “هكذا نحن”. “عندما كنت أجري في الصباح الباكر واتتني فكرة أن أننى أجرى لكى أخرج ما يمكن تسميته (من السيئ تذكره) من كل مسامات الجسم مع العرق”.

لكن موروث والدينا هو جزء من ذكريات طفولتنا القديمة، فهو معروف لنا ويؤثر بقوة على نظرتنا للعالم. وقد تعلمنا أن نعيش مع هذا الموروث، حيث كنا نجتهد لنمنع عن آبائنا أي عناء آخر حتى إن كان حساب أنفسنا. فإنتقل الشعور بالذنب المكبوت من الجيل الأول حيال أقاربهم الذين لقوا حتفهم في غرف الغاز، إلى الأطفال، وتلك المشاعر أظلمت علينا حياتنا وشكلت علاقاتنا بالأسرة. فتحول الكثير منا إلى آباء لآبائهم.

يتمسك الكثير منا بالرغبة في حياة طبيعية محاولين إلقاء الماضي وراء ظهورهم ولا يرغبون في سماع قصص آبائهم المأساوية. تذكرت لقائي مع أخصائية في علم الإجتماع في ندوة عن المحرقة. كانا والداها في معسكرات التجميع، فقالت ” أنا لا أشعر بأي شكل أننى من”الجيل الثاني”. فقالت لها صديقتها أنه لا يمكن التخلص من الصدمة النفسية للوالدين كما لو أنها ملابس قديمة. ويبدو أنه بمرور ثلاث سنوات فهمت الباحثة نفسها هذا، ونشرت قصة حياة أمها في أوشفيتز.

يريد أغلب أبناء الجيل الثاني معرفة كل شئ عن المحرقة. أنا حقاً علمانية بشكل واضح ولكن الوصية تقول “أذكر وأحفظ” ولم أهمل هذا.

بدأ آباؤنا بعد الحرب حياة جديدة مثل طائر الرمل. فقاموا للحياة من جديد من الرماد وعملوا بجِد. وهكذا أتاحوا لأولادهم تعليم جيد وحياة أفضل. فهذه كانت الأولوية الأولى طوال حياتهم “نحن نعمل لكي تستطيعي ان تتعلمي ودائما تكوني بخير بغض النظر عن أي شئ آخر” “التعليم الجيد لا يمكن لأحد أن يأخذه منكي” – تلك الجمل كانت شعار طفولتنا. حفزتنا وزرعت داخلنا إيجابية.

كان في المدينة التي ولدت فيها “فيينا” كل صديقاتي واصدقائي اليهود وهم أبناء لناجين من المحرقة. وبالفعل تبادلنا فيما بيننا قصص عائلاتنا المأساوية ولكن لم ندرك آنذاك أننا ننتمي لـ”النادي” العالمي للجيل الثاني. لكني أدركت هذا في الثمانينات عندما سمعت هذا المصطلح لأول مرة. تحدثت متخصصة علم النفس “دينا فيردي” على “الشموع التذكارية” وحينها تعرفت على أعراض المرض لدى. الفيلم “بسبب هذه الحرب” الذي يحكي تاريخ عائلة “يهودا بوليكر” صدمني وواساني في نفس الوقت. وكشف النجم أنه يتشارك الكثير من المتاعب. فواجه بوليكر مأساة عائلته بواسطة الموسيقى وأنا إستطعت أن أنضم إليه. ولا يمكن التعجب من ذلك أنه أيضاً في إسرائيل كثيرين في محيطي القريب والشخصي هم أبناء الجيل الثاني. ويبدو أننا موجودين بجانب بعضنا البعض.

يبدو لي أن أبناء الناجين من المحرقة هم سبط خاص وليس عامة الشعب الإسرائيلي الذي لا يتميز بأكلات أو فولكلور. وكأبناء الشعب اليهودي الذي يعيش في شتات – منذ خراب الهيكل الثاني – هم مشتتين في كل أنحاء العالم. طور هذا السبط اليهودي شفرات عالمية، يقوم أبنائه بواسطتها بالتواصل فيما بينهم ويفهمون بعض البعض فوراً.

هذا ليس سبط فقط بل أيضاً مجموعة دعم، فنحن نضحك على مخاوفنا الوجودية وأيضاً مشاعر الذنب التلقائية. فنحن نحب أن يحكي كل شخص لصديقه عن القلق المفرط والمزعج أحياناً لآبائنا وأيضاً عن الفجوة السوداء فى الصمت. وتعالج السخرية السوداء التي تغطي كل شئ أحياناً النفس المتضررة.

الإختيار الواعى بالإنتماء لسبط الجيل الثاني ساعدنى على قبول الموروث العائلي كما هو. حيث فتحت نافذة لمواجهة إيجابية مع الألم. فتعلمت ألا أركز على صدمات والديّ بل أيضاً التفاخر بإنجازاتهم في إعادة التأهيل التي لا تُصدق. وقالت المؤرخة “حانا يفلونكا”، “أختار الناجين من المحرقة الحياة … والتأهيل وليس السقوط إلى غيابات اليأس”. وعلى الرغم من أن آبائنا عانوا الكآبة فقد حاربوا من أجل حياة جديدة. وهذا الأمر صحيح فيما تعلق بوالدي، وإن أخضعت ذكريات أوشفيتز وماوتهاوزن والدي في سن الـ60. فقد مات مكتئباً ولم يكن الوحيد.