بقلم: شمعون شتاين

إن الزيارتين التي أجرتهما “فيدريكا موجريني” القائمة على الشؤون الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي، لإسرائيل وللسلطة الفلسطينية، منذ أن تولت منصبها في نوفمبر 2014، كانتا تهدفان إلى التعبير عن الأهمية والدافع الذى اولتهما للقضية الإسرائيلية – الفلسطينية وعزمها على أن تكون مشاركة في جهود استئناف المحادثات بين الطرفين. هذا التصرف قد بعث على ما يبدو برسالة لأعمال معتادة في الاتحاد الأوروبي، لكن هذه ليست أيام عادية. إن الاتحاد الأوروبي غارق في أزمة على العديد من الأصعدة، تهدد مستقبله من الداخل.

في المقابل، يواجه الاتحاد الأوروبي أزمات من الجوار الجنوبي والشرقي. من هنا يأتى التشكك في قدرة “مورجيني” على أن تبعث تفويضاً لاستجابتها للصراع الإسرائيلي الفلسطيني وباقي الملفات وثيقة الصلة بالأمر لاستقرار وأمن أوروبا. وفضلاً عن ذلك ذلك، لصالح أي اتحاد تعمل؟

وهناك مأساة اللاجئين وطالبي اللجوء، الواقعة منذ عدة أشهر أمام السواحل الجنوبية للإتحاد، من أجل دفع المأساة التي تحدث حول العلاقة بين اليونان ومنطقة اليورو إلى هامش النقاش. ومنذ صعود ائتلاف اليسار الراديكالي (سيريزا) للحكم (ائتلاف مناهض للمؤسسات الحاكمة، التي تجمع عدد لا حصر له من الجماعات اليسارية المعتدلة وحتى الماركسيون اللينينيون)، اكتسبت المواجهة بين اليونان ومؤسسات الاتحاد الأوروبي تنوع أيديولوجي، يصعّب من تشكيل حل براجماتي للأزمة.

يتمسك الطرفان بمواقفهم: ترفض اليونان المنهج الذي تمليه ألمانيا، والذي بموجبه، بالتزامن مع تلقي مساعدات مالية، على اليونان أن تنفذ سلسلة إصلاحات اقتصادية – اجتماعية. الحكومة اليونانية، التي وصلت إلى السلطة على أساس تعهدات بتحسين وضع الطبقة المتوسطة والطبقات الضعيفة، التي ساء وضعها في السنوات الأخيرة. ترفض مطلب الاستمرار في إحداث تقليصات في رواتب التقاعد وفي الإصلاحات في سوق العمل، ورفع ضريبة القيمة المضافة. والشعور السائد بين أوساط رجال الإدارة الأوروبيين، هو أن أسلوب إدارة رئيس الحكومة ووزير المالية اليونانيين، هو أسلوب متغطرس وهاوٍ ويساهم في تفاقم الأزمة.

كثيراً ما يختلق الزعماء الأزمات. ولكن، المشهد القيادي في الاتحاد الأوروبي مُمّل للغاية. على خلفية ذلك تَبرز المستشارة الألمانية “أنجيلا ماركيل”، التي تستمد سلطاتها من كون ألمانيا دولة عظمى مستقرة سياسياً ومزدهرة اقتصادياً. ومع ذلك، فمحاولة ألمانيا “ألمنة” الاتحاد الأوروبي يثير اعتراض ملحوظ بين بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. “ميركل” من جانبها، تسعى إلى تخدير هذه المشاعر عن طريق التعاون مع فرنسا، لكن ضعف فرنسا السياسي والاقتصادي يُبرز قوة ألمانيا النسبية.

أوضحت المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل”، التي تقود (إلى جانب الرئيس الفرنسي “فرانسوا أولاند”) معالجة الأزمة، أن فشل منطقة اليورو، سيتبعه فشل أوروبا بأجمعها. هذه المقولة وغيرها من المقولات التي تحمل نفس المعنى لا تترك أي شك حيال رغبتها في الحيلولة دون ترك اليونان لمنطقة اليورو، ليس ذلك فحسب، بل إنها تتعرض لانتقادات متزايدة من قبل أعضاء حزبها (ومسئولين سياسيين آخرين من بين الدول الأعضاء في منطقة اليورو)، الذين ضاقوا ذرعاً باستمرار مدّ المساعدات إلى دولة تُعتبر برميل بلا قاع.

   في الحقيقة أنه حتى كتابة هذه السطور، لم يتضح بعد إن كان سيتم التوصل إلى تسوية من شأنها أن تحول دون إفلاس اليونان وفي نفس الوقت تمكنها من البقاء في منطقة اليورو. في واقع الأمر، هناك حالة ضبابية حول التداعيات التي ستترتب على ترك اليونان للمنطقة – سواء على مستقبل منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي، مثل التداعيات المالية–الاقتصادية الأوروبية والعالمية أيضاً. (إن التقديرات الشائعة هي، أن ترك اليونان للمنطقة لن يسبب هزة مثلما حدثت إثر إفلاس بنك ليمان براذرز).

على كل حال، قبل أن يتمكن الاتحاد الأوروبي من استيعاب نتائج الأزمة اليونانية، ستواجهه “الازمة البريطانية”، أي الاستفتاء الذي سيجري في بريطانيا في عام 2017 بشأن استمرار عضويتها في الإتحاد. وحتى ذلك الحين، يعزم “داڤيد كاميرون”، رئيس الحكومة البريطانية، على إدارة مفاوضات عندما يصطدم بمعارضة من قبل عدد كبير من الدول الأعضاء في الاتحاد، والتي ليست على استعداد بأن تمنح بريطانيا تسهيلات أخرى، بعضها، مثل حرية حركة مواطني الاتحاد، سينخر في مباديء الاتحاد.

لم تكشف الأزمة المالية – الاقتصادية فحسب العيوب الخلقية لمنطقة اليورو (التي كانت من المفترض أن تصبح مرحلة في الطريق إلى الاتحاد المالي – الاقتصادي وفي نهاية الطريق اتحاد سياسي)، بل أنها قد كشفت أيضاً عدم التجانس الاقتصادي بين الدول الأعضاء “الشمالية” (الراسخة اقتصادياً) وبين الدول الأعضاء الجنوبية، التي قد زاد ضعفها الاقتصادي (غياب النمو الاقتصادي، عجز جسيم، نسب بطالة مرتفعة وغياب للمنافسات).

حتى وإن كانت دول مثل إسبانيا والبرتغال تحاولان التخلص من الأزمة وإيطاليا وفرنسا لا تزالان في تباطؤ اقتصادي، فعلى المدى البعيد قد يعرض عدم التجانس هذا مستقبل الاتحاد للخطر، في السياق الراهن. لقد تم رفض المقترحات التي طُرحت على خلفية الأزمة اليونانية لبحث توسيع التضامن عن طريق تقاسم الديون من قبل ألمانيا تماماً. فبدلاً من استخدام الأزمة على أنها دافع لتعميق التكامل، نجد أن الأزمة الاقتصادية قد فتحت صندوق باندورا، وتحمل معنى التأميم والتشكك متزايد حول مؤسسات الاتحاد الأوروبي عامة والمفوضية خاصة وكذلك التطلع إلى الحدّ بقدر المستطاع من  تأثير بروكسل على إدارة الدولة.

من جانبه أعرب رئيس الحكومة الهولندي “مارك روته”، عن هذه الأجواء، حينما قال: “أوروبا فقط عند الضرورة”، في الوقت الذي يسعى فيه “كاميرون” إلى محو التطلع إلى توطيد التكامل من جدول الاعمال – وهو المبدأ الراسخ في عقيدة الاتحاد الأوروبي. إضافة إلى ذلك، تجدر الإشارة إلى صعود الأحزاب الشعبية، التي تحمل رسائل تنطوي على كراهية الأجانب، والعنصرية واللاسامية؛ وتفسخ المنظومات السياسية – لاسيما في إسبانيا، وإيطاليا، واليونان. في الانتخابات الأخيرة في البرلمان الأوروبي برزت نسب مرتفعة من عدم المشاركة، والتي عكست عدم الثقة بين المواطنين في قدرة المنظومة السياسية على إيجاد حل لمشكلاتها.

هذه الظواهر تطرح علامات استفهام، هل التكامل الأوروبي سيقوم وسيعتمد على الازدهار الاقتصادي، بمعنى، أنه في ظل غياب الازدهار والرخاء هل سيكون هناك انعكاس قومي – إن لم نقل المتعصب لقوميته؟ في الواقع، إن فخر الاتحاد، إضافة إلى كونه نموذج اقتصادي – اجتماعي، كان أيضاً لكونه مجتمعاً أخلاقياً. لكن التحدي يضع أمام هذا النموذج على سبيل المثال رئيس الحكومة المجري، “ڤيكتور أوربان”، الذي يعترض على النموذج الليبرالي للاتحاد الأوروبي في الوقت الذي يضع نصب عينيه “ڤلاديمير بوتين” كقدوة يُحتذى به. كذلك معالجة الاتحاد لقضية اللاجئين وطالبي اللجوء السياسي – التي لديها جانب أخلاقي – تؤخذ عليها.   إن عجز الاتحاد الأوروبي، الذي يتمثل فى السياسة الخارجية، كبير بالنسبة للأزمات التي يعاني منها جيرانه من الشرق والجنوب. في تلك الأيام من المفترض أن تستكمل مؤسسات الاتحاد تقديرات مُحدثة للوضع حيال الشرق الأوسط إثر الاضطرابات التي اجتاحت المنطقة في السنوات الأخيرة، كأساس للاستراتيجية المُحدثة حياله. لكن، على الأرجح أن الاتحاد الأوروبي ليس لديه ولن يكون لديه في المستقبل المنظور موارد تساهم في استقرار المنطقة. كذلك يتعذر على الاتحاد الأوروبي بلورة رد على موجة اللاجئين وطالبي اللجوء السياسي، الذين يحاولون الوصول أو يصلون إلى أراضيه من منطقة البحر المتوسط ومن أفريقيا.

وفي محاولة لصد موجات الهجرة (التي تنتهي أحيانا بغرق اللاجئين في البحر المتوسط) قادت “موجريني” مبادرة تحمل عدة خطوات، لكن من المشكوك فيه إن كان باستطاعتها أن تردع القادمين. وبين أمور أخرى، من المفترض أن يعالج الاتحاد الأوروبي الأسباب التي تقود الكثيرين إلى ترك بلادهم، لكن هذه المهمة مستحيلة. معظم دول الاتحاد ليست على استعداد بأن تساعد إيطاليا، وفرنسا، والسويد، وألمانيا، والمجر التي تضطر إلى تحمل معظم عبء استيعاب اللاجئين.

يَبرز عجز الاتحاد أيضاً في الاهتمام بالدول المجاورة من الشرق، التي تبقى فرص انضمامها إلى صفوفه ضئيلة. كما أن هناك تحدى أكثر صعوبة أمام الإتحاد -بسبب تداعياته العالمية –وهو قيام “بوتين” بضم القرم، وتورطه في زعزعة الاستقرار في شرق أوكرانيا خاصة وزعزعة النظام الأوروبي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة عامة. بغياب الخيار العسكري، تأمل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بأن تغيّر العقوبات التي فُرضت على روسيا من سياستها – وستأمل في الوقت الراهن بألا يكون لديها ما يُمكن الاعتماد عليه. في هذا الوقت تتردد احتجاجات ضد العقوبات في إيطاليا، واليونان، والمجر، وسلوفاكيا.

كذلك في هذه الحالة، تبني “ميركل” لملف حلّ الأزمة مع روسيا (حيث ضمت إلى صفها الرئيس الفرنسي)، يشير مجدداً إلى أنه كلما تحدثنا عن قضية ذات تداعيات قومية، خاصة في هذه الحالة – عن علاقات ألمانية – روسية، تتحمل الدول مسئولية حل هذه الازمة في حين يبقى الاتحاد بأكبر قدر ممكن في الخلفية. من هذه الناحية، تدفع هذه الديناميكية بمفوضة السياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي جانباً – الحالية “مورجيني”، فقد كان ذلك مصير سابقتها في المنصب، “كاترين أشتون”.

على خلفية الأزمة من الداخل والخارج في الاتحاد الأوروبي، عندما يكون الإجماع الداخلي في أوروبا، حول قضايا السياسة الخارجية محدوداً (في هذا السياق يبرز الإجماع حول قضايا الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، الذي يعتبر أوسع مما يميل ويود المسئولون في المنظومة الإسرائيلية أن يعتقدوا)، على الأقل على المستوى الاستراتيجي يستند هذا الإجماع إلى الوقوف الأوروبي بشكل عام إلى جانب القانون الدولي كمبدأ توجيهي في العلاقات الدولية.

هذا المبدأ يمثل القاسم المشترك الطفيف، الذي يوحد كافة الدول الأعضاء. إنه أساس المعارضة الواسعة للاحتلال الإسرائيلي للمناطق الفلسطينية المحتلة، ولسياسة الاستيطان في الضفة الغربية، التي تُعتبر قضية، يمكن للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أن تبدي موافقة واسعه حولها. أي تنازل في هذه القضية الرئيسية سينخر فيما تبقى من الإجماع الأوروبي. من هنا، ستظل سياسة الحكومة الإسرائيلية الحالية تمثل سبب الخلاف غير القابل للدرء بينها وبين الاتحاد الأوروبي. كذلك الادعاء الإسرائيلي بشأن تراجع مركزية الصراع على خلفية التقلبات التي يمر بها الشرق الأوسط والحاجة إلى حلّ الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني في سياق إقليمي لا تلقى آذاناً صاغية.

والدليل على أنه لا توجد نية لدى الاتحاد الأوروبي لأن يترك القضية، يمكن أن نراه في المبادرة المسرعة، وألا نكتفي بالتصريحات بل ننتقل إلى الأفعال، التي ستعرب عن موقفه حول عدم دستورية السياسة الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. في ظل غياب استراتيجية من جانب الاتحاد تحدد كيفية تخليص المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية من المتاهة التي دخلت فيها، وقد تبنت فرنسا المبادرة عندما قررت أن تدفع في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بتمريرها لمشروع قرار، يدعو لاستئناف فوري للمفاوضات ويحدد جدول زمني للوصول إلى تسوية دائمة، وإن لم يتم ذلك، فستعترف بالدولة الفلسطينية.

في الوقت الراهن، من الصعب أن نُقّدِر فرص نجاح الإجراء عامة وفرصة تحوله إلى سياسة للاتحاد خاصة – حتى وإن فرضت الكثير من الدول الأعضاء فيه هذا الإجراء. ومع ذلك، من الواضح أن غياب الإجماع سيكبل أيدي “مورجيني”، التي من المتوقع أن تواصل مجهوداتها في تكامل الاتحاد الأوروبي في محاولة لتحقيق حل الدولتين.