ما يبدو وكأنها رقصة تانجو مأساوية بين الطاعنين ومطلقى النار ليست إلا الصورة المحرّفة عن عمد من قبل ماكينة إعلامية مُجنّدة، تحاول تصدير الحوار المؤسسى بشأن موجة جديدة من العنف الفلسطيني إلى الجمهور.

إن الأغلبية الساحقة من عمليات الطعن ما هي إلا صنيعة أيدي أفراد بلا خلفية تنظيمية ما. هذه الأعمال تستحق كل إدانة، لكنها لا يمكن أن نسميها بالإرهاب لأنها لا تُنفذ لأجل هدف سياسي أو أيديولوجية. هذه عمليات عنف تسفر عن نتائج مأساوية للمطعون وللطاعن نفسه، الذي في أغلب الأحيان يُطلق عليه النار ويُقتل.

معظم المنظمات الفلسطينية، وعلى رأسها السلطة الفلسطينية، قد أعربت عن رفضها للتصعيد أو على الأقل عدم رضاها عنه. على خلاف حالات سابقة، ولم يتبنى أي تنظيم مسئوليته عن حادثة طعن؛ هذه الحقيقة نابعة من تغيير عميق في الاستيعاب الفلسطيني للصراع وسبل حلّه. من الواضح، إلى جانب ذلك، أن اللاعبين الفلسطينيين الرئيسيين يلقون المسئولية كاملة على حكومة “نتنياهو”، التي بادرت بالتصعيد في قبة الصخرة رغبة في عرقلة حضور “أبو مازن” في الأمم المتحدة والآن لم تفلح في تهدئة الساحة التي اشتعلت.

تتعامل الحكومة الإسرائيلية والحوار في الإعلام الحكومى مع عمليات الطعن على أنها فعل وتتجاهل من أننا نتحدث عن رد فعل مباشر للاحتلال المتواصل، ونتيجة فقدان الأمل والكرامة الإنسانية للفلسطينيين، كشعب وكأفراد. لقد أسفرت الأحداث عن حملة محلية ضد الجمهور العربي في إسرائيل، بما في ذلك اعتقالات موسعة لمشاركين في نشاط الاحتجاج الشرعي، وأعمال اعتقال وقائية وقيود الحركة. لقد بدأ محاكمات سحرية ضد من يعلق ويكتب على شبكات التواصل الاجتماعي وضد الحركة الإسلامية. في إسرائيل تسود الآن أجواء عكرة وظلام تحيطه الفاشية، والمحاكمات الميدانية، مثلما رأينا في العفوله وفي ديمونة، تجعل من الساحة العامة مناطق أشباح بالنسبة لليهود والعرب.

إن تدهور الأمور التام المرتقب في علاقات اليهود والعرب والإسرائيليين والفلسطينيين يفاجئ حكومة اليمين مفاجأة كبيرة. يبدو أن استراتيجيات “إدارة الصراع” و”السلام الاقتصادي” التي اقترحها “نتنياهو” كبديل لمسودة أوسلو ليس لها موطئ قدم على أرض الواقع. إن حكومة اليمين تكتشف بذهول أن للفلسطينيين كرامة قومية وإنسانية وليس فقط احتياجات مرورية واقتصادية، ولا تقتصر أحلامهم وطموحاتهم على تصريح دخول للعمل في البناء داخل إسرائيل. الفلسطينيون، على قدر ما يبدو أن الأمر غريب، لا يختلفون عن البشر العاديين: إنهم على استعداد بأن يسامحوا حتى ولو على حساب كرامتهم، وعلى استعداد بأن يتحركوا من خلال اليأس أو مثلما يرون ذلك، من خلال البطولة، حتى ولو كانت النتيجة مأساوية. لكن ربما من الصعب بمكان أن نتوقع من المحتل أن يدرك أن من يخضع للاحتلال لديه كرامة إنسانية ومطلب قومي أيضاً.

منذ اندلاع الثورات العربية تمسكت الحكومة الإسرائيلية والجمهور الإسرائيلي بمفهوم أن الفوضى في الشرق الأوسط ستُنسي القضية الفلسطينية وأن السلطة الفلسطينية ستضطر إلى أن تخضع لاستمرار الاحتلال. في السنوات الأخيرة أثبت الواقع العكس لكل من يحاول أن يصدر تلك القصص الخيالية. يتبين أن حكومة اليمين، بغطرستها وبعنصريتها، تُدار مثل أي نظام آخر في الشرق الأوسط: إنها متجردة من السياسة، وتقضي على أية فرصة ممكنة للتفاهم مع الخصم، وتقتل أي أمل وتنهش في جسد فكرة السلام، والتسوية والمصالحة. وكما أنظمة أخرى في المنطقة تشعل الحكومة الإسرائيلية الخوف والرعب، وتهزّ الشعور الأمني العام والشخصي وتزيد عن طريقها موجة الفاشية المتزايدة، وتقضي على كل شيء.

أخشى من أننا نمضي نحو نقطة اللاعودة من تفاقم التهديد الذي ربما لا تريده الحكومة الإسرائيلية، لكنها ترتكب كافة الأخطاء التي تؤدى إليه، بينما “أبو مازن” والسلطة الفلسطينية يعملان بأكبر قدر ممكن من أجل منعها. من المثير للسخرية أن يكون هناك حشد من قبل الخاضع للاحتلال لما ينقذ المحتل نفسه! ربما سنذكّركم هنا بـ “باولو فريرا”، فيلسوف التعليم البرازيلي، الذي زعم في النصف الأول من القرن السابق أن القامع سيحتاج أن يتحرر من القمع ليس بسبب قمعه فحسب بل ايضاً بسبب قمعه لنفسه.

منتدى التفكير الإقليمي

بقلم: مرزوق الحلبي