بقلم: فدريكا موجريني

الممثل الأعلى للشئون الخارجية

والأمنية بالإتحاد الأوروبى

 

ثمة أيام تترك بصمتها على حياتك وعلى مشاركتك السياسية: كان الرابع من نوفمبر 1995 أحد تلك الأيام. ذكّرنا خبر “يتسحاق رابين” بالحقيقة بالمرة. عندما يكون السلام ضرورياً أكثر، عندما يتحول السلام إلى خيار واقعي، يطلق أعداء السلام كراهيتهم كاملة.

بعد أسبوع من تقلدي لمنصب الممثلة العليا للشؤون الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي كنت في تل أبيب، وضعت إكليلاً على النصب التذكاري لـــ “رابين”. منذ دخولي للسياسية صاحبتني صورة “رابين” و”عرفات” في كامب ديفيد، إنها محفورة في رأسي. لقد اعتُبرت بأنها ذكرى ثابتة: على الرغم من كافة الصعاب والحواجز، لا يمكننا أن نفقد أبدا الأمل. فالوضع سيتفاقم أكثر إن لم نتحرك تجاه التغيير.

يعد الرئيس السابق “شمعون بيريز”، هو الشخص الذي لم يفقد الأمل قط “ثمة نور في آخر النفق”، ثم عاد وهمس في أذناي، “ببساطة ليس هناك أي نفق”. معلوم لدينا إلى أين نريد أن نصل: دولتان، كل دولة تعيش إلى جانب الأخرى في سلام وأمن. لكن حتى الآن، ليس هناك أي سبيل مفتوح للسلام. علينا أن نبنيه، علينا أن نجد نقطة بداية. كلما مر الوقت، فإن مهمتنا ستصبح أصعب.

إن فرصة السلام القابلة للتحقيق تهرب من يدنا. ليس الطرفان فقط هما اللذان يديران مفاوضات: الهدف نفسه، رؤية البلدين نفسهما، والإطار الذي اتفق عليه في أوسلو، بعيدان عن المنال. إنني اعتقد بأننا يمكننا إنقاذ أوسلو. وليس حلم أوسلو، بل أيضا الواقع الفعلي الذي وجّه الاتفاق إليه. أخيراً يمكننا أن نحوّل الكلمات التي كُتبت على الورقة إلى شيء ما حقيقي.

وبناء على ذلك، نحتاج جرأة من كلا الطرفين.إذا لم يفلح رئيس الحكومة “بنيامين نتنياهو” والرئيس “محمود عباس” في السير الآن متشابكي الأيدي، فإنهم سيتركون ورائهما مستقبل خطير للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء.

كان “رابين” مدركاً تماماً لمسألة أن السلام فقط بإمكانه أن يجلب الأمن الحقيقي لإسرائيل. لكن ما هى قيمة “السلام” اليوم؟ إنني أعلم أن العديد من الإسرائيليين والفلسطينيين يسألون هذا السؤال – يسألون أنفسهم، وحكّامهم، ويسألوننا جميعاً. اعتقد بأنه لا يوجد حدّ لإطفاء الحرائق. والعودة إلى الحياة الطبيعية لم يعد خياراً – في الواقع، ليست هناك أية حياة طبيعية يمكن العودة إليها. الطريقة الوحيدة لوضع حد لهذه الحلقة المفرغة هو أن نتقدم – إلى حل الدولتين الذي سيُنجز في طريق المفاوضات والذي يحقّق مطالبها الشرعية للشعبين. إنني أيضاً ما زلت أؤمن بأن القدس ستكون اسماً على مسمى – مدينة السلام – كعاصمة مستقبلية للدولتين. برغم كل التشكك، لم أسمع أي بديل قابل للتطبيق لهذه الرؤية.

اليوم، القدس تعاني مجدداً. الحرب على الأماكن المقدسة لن تعود بالنفع سواء على الإسرائيليين أو الفلسطينيين. إنها ليست حرب دينية، مثلما قال لي الرئيس “رؤڤين ريڤلين” في اللقاء الأول بيننا. الخلفية الحقيقية لا تكمن بين أصحاب المعتقدات الدينية المختلفة، بل بين أصحاب المعتقدات المختلفة حول السلام، وحول العنف. إن رواية الحرب الدينية بمقدورها أن تخدم الإرهابيين. يمكن أن تخدم داعش، وتعزز من دعاية التنظيم، وتتيح له التطرف وتجنيد أنصار في الأرض المقدسة. لا يمكن أن نسمح بذلك.

العالم الذي نعيش فيه اليوم معقد عشرات أضعاف ما كان عليه قبل 20 سنة، والشرق الأوسط أصبح أخطر بكثير. إن المزج بين الصراع على الأماكن المقدسة وبين الأزمات الإقليمية الجديدة من شأنه أن يتوغل لنا في الداخل. لم يعد هذا فصل من نفس القصة القديمة. هذا الأمر قد يكون الفصل الأول في عصر جديد ومأساوي.

علينا أن نتذكر ذلك، ونحن نتحرك لإعادة بناء نفق السلام نفسه. على الزعماء الفلسطينيين والإسرائيليين أن يتذكروا ذلك: في هذا الوقت هم ليسوا مسئولين عن أبناء شعبهم، بل أيضاً عن المنطقة والعالم أجمع.

لكنهم ليسوا وحدهم. لدى المنطقة كلها مصلحة كبرى في دعم عملية السلام. بهذه الروح، وإثر مبادرة الاتحاد الأوروبي، التقينا رؤساء اللجنة الرباعية مع زعماء عرب فى نيويورك بغرض الدفع بإطار إقليمي جديد للسلام. كل من تلك الدول بمقدورها أن تلعب دوراً حاسماً – وأنا أفكر بالأساس في الأردن، بأن تلعب دوراً حاسماً في الأماكن المقدسة، ومصر في غزة، والسعودية في إحياء مبادرة السلام العربية. ومن جهة أخرى، يجدر بنا أن نوضح بأن المجتمع الدولي لا يمكنه فعل الكثير إن لم يتفق الأطراف على تبني المسئولية بأنفسهم.

تحدثنا في نيويورك بوضوح عن الحاجة إلى تغييرات سياسية ملحوظة على أرض الواقع، وفقاً لاتفاقات الماضي. ومن أجل استئناف العملية السياسية، علينا أن نعثر على نقطة بداية جديدة. لقد حان الوقت لاتخاذ خطوات فعلية تتيح حقاً للفلسطينيين بأن يملكوا زمام حياتهم، من خلال الحفاظ على أمن إسرائيل.

إن غياب الإرادة السياسية من قبل زعماء إسرائيليين وفلسطينيين من شأنه أن يمثل الحاجز الأكبر في طريق السلام. إنني أؤمن ايماناً عميقاً بأن هناك مجال في المعسكرين لعملية سياسية، لكن هذا المجال يتقلص. يرغب الاتحاد الأوروبي في المساعدة والإبقاء عليه مفتوحاً. إننا الآن نتحرك بالتعاون مع الطرفين، ونحن على استعداد بأن نوسع الخطوات السياسية، والأمنية والاقتصادية التي تسبق الاتفاق النهائي. لا تجمع بين أوروبا وإسرائيل قرابة جغرافية كبيرة فحسب: فهم يتقاسمون معنا نفس الجذور، والقيم والثقافة، والمؤسسات الأوروبية تبذل قصارى جهدها حتى لا تسمح بأن تزرع موجة جديدة من المعاداة للسامية الفرقة بين الشعبين.

إبان الحرب الأخيرة في غزة تمكنت من أن التقي مع الأديب “داڤيد جروسمان”. حيث وصف لي شعوره بأن الشعبين محتجزين في فقاعة، يمكنهم فيها أن يجدوا تبريرات للعنف. يبدو أنه من الصعب بمكان اليوم أن يخرجوا من هذه الفقاعة، ولكن مع ذلك، هذه الخطوة مطلوبة أكثر من أى وقت مضى. فمن شأنها أن تمثل الفرصة الأخيرة لمساعدة الأطراف للتخلص منها. إنني أؤمن بأننا جميعاً مشاركون في هذه المسئولية.