منذ خمس سنوات قبل أسبوع من الآن وقف بائع متجول في سوق بلدة سيدي بوزيد في تونس، وصبّ على نفسه بنزيناً وأضرم النار التي أحرقته وسرعان ما انتشرت بسرعة في أغلب الشرق الأوسط. وفي الحريق احترقت تماماً عدة دول، ومازالت النيران مشتعلة، تلتهمنا نحن أيضاً والعالم الغربي وتغير وجه وتاريخ الشرق الأوسط. هذا التغيير الإقليمي الأكبر الذي يحدث حولنا منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية.

على مدار قرن تقريباً، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، حكم العرب هذه المنطقة، وطالما كانت السعودية ومصر الدولتين الرائدتين. الآن يتداعى العالم العربي من تلقاء نفسه، وتتولى القيادة دول غير عربية: إيران وتركيا. وتحتل روسيا محل الولايات المتحدة كونها الحاكم الإقليمي، وبدلاً من النظام القديم الذى تحطم، لم يحل نظام جديد بعد، بل فوضى مستمرة في الدفع إلى تغييرات جذرية.

حتى قبل خمس سنوات لم يشهد العالم العربي ثورات شعبية، وتم تبادل السلطة في الغالب بانقلابات قادها ضباط وجماعات عسكرية. فجأة تحول الشارع العربي إلى جسم قوي، ولكنه في الغالب يفتقد عقلاً وفكراً. بلغ عدد محدثي التغيير حوالي مائة مليون شاب عربي تتراوح أعمارهم من ١٥ إلى ٢٥ عام، نصفهم تقريباً عاطلين، وربعهم فقط حاصلين على مؤهل عالي. إنهم ومازالوا العنصر الذي يشكّل المنطقة.

ما الذي أعطى هؤلاء الشباب الجرأة كي يثوروا ويحاولوا تغيير مصيرهم؟ لقد كان البائع المتجول “محمد بوعزيزي” المرحلة الأولى في سلسلة ردود الأفعال. لكن ما هي حقاً نقطة الانطلاق للثورات في العالم العربي؟ كثيرون يشيرون إلى خطاب الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” في جامعة القاهرة عام ٢٠٠٩ على أنه الحدث الذي مهد الطريق للثورات. دعا “أوباما” المسلمين للإنطلاق إلى بداية جديدة، لكن بذور الثورة كانت هناك بالفعل.

اعتقد أنها قد ذُرِعت بالفعل في نهاية عام ٢٠٠٣، عندما قبض جنود أمريكان على الرئيس العراقي السابق “صدام حسين” قرب تكريت. إن الصور المهينة التي نشرها الجيش الأمريكي- للجنود الذين يدفعون الطاغية السابق من الحفرة التي اختبأ فيها، وبعدها يفحص الطبيب العسكري أسنانه – هى ما أحدث موجة الانفجار.

لم يفهم الأمريكان تأثير مقاطع الفيديو التي نشروها للإعلام. لطالما كان مكروهاً، فقد كان يُنظر إلى “صدام حسين”، في العراق وفي العالم العربي على أنه إلــــه. فقد كان يقتل من يريد من دون أن يغمض له جفن، وكان يغتصب من يشتهي، ويقطع الأعضاء، لقد كان جباراً. إن عرضه المهين أثناء القبض عليه قد قلصه إلى المستوى البشري ولوّح للعالم العربي بأن ليس “صدام” وحده، بل أيضاً “معمر القذافي”، و”حافظ الأسد”، و”حسني مبارك” -كل هؤلاء الطغاة الأبديين – ليسوا أبناء آلهة بل مجرد بشر.

خرج الشباب إلى الشوارع وطالبوا بالحرية، ففُتن بهم العالم الغربي وأطلق على الأحداث الاسم الرومانسي “الربيع العربي”. لم يمر كثيراً من الوقت حتى بدا الربيع أكثر وكأنه شتاء قارس البرودة، والحرية الجديدة استُغلت للخروج إلى حملات قتل وحروب أهلية. لقد تم محو دول مثل سوريا والعراق، وليبيا، واليمن من الخريطة، ووُلدت دولة جديدة -“الدولة الإسلامية”-وليس واضحاً اليوم ما هي الدولة القادمة التي ستسقط.

إسرائيل، كعادتها، اعتقدت أنها بعيدة عن تلك الأحداث، وأن الأحداث ستظل خارج حدودها. ستبقى الفوضى وانعدام الأمن داخل بحر العنف الهائج الذي أغرق المنطقة، أما هي فلا. إن انتفاضة الأفراد التي نشهدها تُحركها الأجواء الإقليمية أكثر من النضال الفلسطيني من أجل الاستقلال. كذلك هي الأخرى يحركها شباب تتراوح أعمارهم من ١٥ إلى ٢٥ عاماً (٧٦٪ من المخربين) بلا قيادة أو تنظيم يقف ورائهم.

من دون الاستخفاف بالتحريض المتواصل في وسائل الإعلام الفلسطينية المؤسسية، لا يستمد أغلب الفلسطينيين الإلهام منها. كأبناء جيلهم الإسرائيليون، يكتسب معظم معلوماتهم من شبكة الإنترنت، وحتى إن توقفت السلطة الفلسطينية عن التحريض في التلفاز وفي الراديو-فمن المشكوك فيه أن يقلل شيئاً من محاولات تنفيذ عملية إرهابية. بدأت أوروبا تفهم أن ما يحدث في الشرق الأوسط سرعان ما سيصل إلى أراضيها. لم تفهم الولايات المتحدة هذا بعد. كان علينا أن نفهم ذلك قبلهم بكثير. كوننا دولة يمثل السكان العرب خُمس عدد سكانها، وتحكم مليونين ونصف عربي في الضفة الغربية، ومحاطة بـ٣٥٠ مليون عربي، يجدر بنا أن نبدأ في معرفة العالم من حولنا.

قبل بضع سنوات اجتمعت شخصية إسرائيلية رفيعة المستوى فى أول لقاء مع نظيراتها في السعودية. “أخبرني”، استهل السعودي حديثه مخاطباً الشخصية الإسرائيلية، “هل أنتم واثقون بأنكم تريدون العيش في الشرق الأوسط”؟. تفاجأ الضيف الإسرائيلى وقال: “ماذا تقصد؟”. أجابه السعودي: “أنتم تتصرفون وكأنكم تعيشون في فلوريدا. لا تجيدون العربية، لا تعرفون ثقافتنا، لا تدرسوننا. نحن نقرأكم وندرسكم، وأنتم تتصرفون وكأنكم لستم من هنا تماماً”.

إنه لمس نقطة محددة: أغلبنا غير قادرين على إدارة حديث مع جار أو زميل عربي، ولا نطلع على الإعلام العربي ولا نعرف إلا قليل جداً من ثقافة جيراننا، القريبين والبعيدين. كما نرى مستقبلنا ومستقبل ذريتنا في هذه المنطقة، حان الوقت أن نتوقف عن التصرف وكأننا ضيوف للحظة ونبدأ دراسة المنطقة التي نعيش فيه بجدية.

وفي مجال واحد يبدو أننا قد أقلمنا أنفسنا مع المحيط المجاور: ينحدر خطابنا العام، وليس فقط في الانترنت، شهرياً أكثر إلى الحضيض. وكما في المنطقة الشرق أوسطية، كذلك أيضاً لدينا المتطرف أصبح معياراً ويسيطر على الخطاب وعلى الأغلبية الرصينة التى لا تحرك ساكناً. كل خبر إعلامي وكل منشور يُقابل بردود أفعال مستعرة، يُمكن ترجمتها بسهولة إلى العربية.
إننا نطالب بحق، الفلسطينيين أن يوقفوا التحريض في وسائل الإعلام الخاصة بهم، لكننا لا نكلف أنفسنا بالنظر إلى ما يجري حولنا في الداخل. ليس لديهم هم فقط نيران مشتعلة من الكراهية والعنف، ليس لديهم هم فقط ضيق أفق وإرادة في إسكات أو استبعاد كل من يبدو له أو يعتقد شيء آخر. عندما يقرأوننا يشعرون أنهم في البيت.

معاريف- ألون بن داڤيد

Bottom of Form