من يريد يمكنه أن يتفاخر بأننا بقينا متفردين فى محيطنا. الربيع العربى تولدت عنه ديمقراطية واحدة فقط، صغيرة الحجم، وغير مستقرة، فى تونس. بخلاف ذلك، نجح الربيع العربى فقط فى مزيد من الإنخفاض فى مستوى الحرية المحدودة فى دول مثل مصر والبحرين، ولا داعى لذكر ما فعله بسوريا. من غير الممكن فى غزة منذ وقت طويل، الحديث بصورة جادة عن الحرية الشخصية وعن الديمقراطية، وفى مناطق السلطة الفلسطينية هناك تآكل متواصل فى التجربة الديمقراطية.تتم إدارة أمور السلطة لسنوات طويلة عن طريق أوامر رئاسية، والبرلمان لاينعقد، وليست هناك انتخابات لمايزيد عن عقد من الزمان وحرية الصحافة قد تقلصت بشكل مأساوى. لذلك، من الممكن أن مؤشرات الديمقراطية التى تعقد مقارنات سنوية فى أوساط جميع أمم العالم فيما يتعلق بمستوى الحرية الشخصية وحرية الصحافة، وحقوق الإنسان والحقوق السياسية فى دول العالم، ترى أن الفجوة بيننا وبين جيراننا قد اتسعت أكثر.

من أراد فليطمئن ويتفاخر بأنه ليس هناك بديل آخر للعالم الحر كحليف فى الشرق الأوسط. لكن بذلك ليس هناك شئ جديد، السؤال الحقيقى هو ماذا يحدث هنا، فى هذه الدولة. ومن جانبنا، هناك تآكل متواصل فى الملامح المختلفة للديمقراطية. صوت أولئك الذين يعتقدون الديمقراطية معناها انتخابات نزيهة، ومن لديه الأغلبية يمكنه منع الباقين من رفع صوتهم، يزداد قوة. وكذلك فى النطاق الضيق –أياً كانت أهميته- الذى يتعلق بالإنتخابات نفسها، تبذل جهود لتقليل حرية الإنتخاب ( على سبيل المثال، عن طريق محاولة منع المحكمة العليا من سماع استئناف على قرار لجنة الإنتخابات المركزية فيما يتعلق بمشاركة الأحزاب المختلفة فى المنظومة الإنتخابية).

عن الصراع

سيل مشروعات القوانين التى نراها فى الفترة الأخيرة هى جهود واضحة جداً لليمين والمتدينين المحافظين لفرض قواعد للتعامل على المجتمع كله، والتى لاتتفق مع القيم الديمقراطية العالمية. أحد الملامح البارزة لغالبية مشروعات القوانين التى يتم طرحها مؤخراً هو رؤية العالم على أنه حيوان مفترس يهدد إسرائيل، ورؤية كل من يقيم علاقات مع الخارج مشتبهاً به. ” قانون الجمعيات” هو النموذج الأكثر تطرفاً لذلك. البقعة التى سيضطر لحملها ممثلى الجمعيات التى يصل جزء من ميزانيتها من دول العالم، من المفترض أن تردع الجمعيات من تلقى مثل هذه الميزانيات، وربما تؤدى بمنظمات كهذه، والتى يعمل أغلبها فى مجال حقوق الإنسان، إلى أن تتوقف، وأن تشوش أفكار متخذى القرارات فى تهم تتعلق بالإضرار بهذه الأقليات أو تلك.

خطورة التمييز، التى يتم طرحها فى مشروعات القوانين، من تمويل الجمعيات الإسرائيلية عن طريق دول ومنظمات عالمية وبين مصادر خاصة، تصرخ لتقول أن الحصول على تبرعات من منظمات –بعضها بالفعل خيالى، ورؤيتها هى تنصير كل يهود العالم أو إبادتهم، ستظل أمراً جائزاً وجديراً. وتمويل التعاون بين الإسرائيليين وجيرانهم عن طريق أى دولة أو عن طريق الإتحاد الأوروبى يتطلب قيوداً تهدف إلى منع مثل هذا التمويل تماماً.

وإلى ذلك ينضم “قانون النكبة”، والذى يهدف إلى عقاب مؤيدى المقاطعة، والقوانين الأخرى التى تضر بحرية التعبير، وإخراج الحركة الإسلامية الشمالية من نطاق القانون، والطلب بإخراج منظمة “كسر الصمت” من نطاق القانون، وقرار وزراء الدفاع والتعليم بمنع رجال المنظمة من لقاء التلاميذ، وغيرها وغيرها. إن أى تشريع أو قرار كهذا له منطق خاص، يمكن أن يدور جدل حوله، لكن الأمور واضحة وجلية؛ وهى أنه ليس الأمر مصادفة، لاتوجد هنا إرادة لمعالجة مشكلة جوهرية، بل سياسات إخراس كل من ليس جزءاً من المذهب الأساسى فى المجتمع الإسرائيلى، كما تراه السلطة.

كل من لايعزف وفقاً للنوتة المقبولة فهو خائن، ويخدم المصالح الأجنبية، ويضر بأمن الدولة. وكل من يسمح لنفسه فى العالم بانتقاد قرار إسرائيلى أو تصرف من قبل إسرائيليين، يعتبر محرضاً ومضللاً ويشوه صورة إسرائيل. إذا كان هناك نقد –هكذا يوجهوننا- يجب أن يقال فى الوطن، والإعتماد على المؤسسات التى ستقبله بنفس راضية وقلب مفتوح، وتفحصه بشكل جاد وبنزاهة تامة.

هناك دول تكون فيها أى علاقات مع العالم خيانة. هكذا على سبيل المثال، تم إغلاق الجمعيات الأجنبية فى مصر، لأن الحكومة لم تقبل المزاعم بأنها هناك لدفع الديمقراطية، ورأت فيها مصدراً لإثارة الهياج، والذى يخدم المصالح الأجنبية وليس المصالح المصرية. نحن نزعم، وأكرر الزعم بأننا لسنا كذلك، وأننا الديمقراطية الوحيدة فى المنطقة وفى الوقت ذاته نحاكى النماذج الأقل ديمقراطية فى محيطنا.

التقيت مؤخراً أحد البارزين فى الإدارة الأمريكية، وقال لى أشياء واضحة جداً فى هذا الشأن؛ قال أن الولايات المتحدة تحتاج إلى حلفاء فى الشرق الأوسط، سواء نجحت فى التحرر من المنطقة أو اضطرت إلى البقاء فيها. الحليفين الطبيعيين لها فى الشرق الأوسط هما إسرائيل وتركيا، وتصالحهما مؤخراً مهم لها جداً. كلا البلدين عاشت سنوات طويلة من الديمقراطية، وكان من السهل فيها الحديث عن أن القاسم المشترك مع الولايات المتحدة هى القيم الديمقراطية وليس فقط المصالح الإستراتيجية. فى هذين البلدين –مع كل الفروق بينهما- حدث تدهور فى مجال الحقوق والحريات، ويوصفت كلا منهما على أنه ديمقراطية معيبة بالمعايير الدولية المقبولة. لكن ليس لهما بديل، ولايزال الوضع فيهما أفضل من جيرانهما. إن الصراع ضد توجهات إخراس الأصوات المعارضة وتقليص الحريات، يتركه الأمريكان لمواطنى الدول، أى من لايستطيعون القبول بالوضع، والذين على استعداد للصراع من أجل تعزيز الديمقراطية.

الإفتراض هو أن الجمهور –خاصة فى الدول التى أساسها ديمقراطى- لن يكون مستعداً للتخلى طوال الوقت عن الحريات التى أخذت منه. فى البداية يبتهج الجميع عندما يتم تحجيم أو إخراس قطاع معين، وبعد ذلك يقلقون من الإضرار بجماهير أخرى، وفى نهاية الأمر يخشى الناس على أنفسهم، حتى وإن كانوا قد ظنوا أنهم لن يضروهم أبداً. لذلك تأتى اللحظة التى يجد فيها من يبدو الآن كنظام حكم غير قابل للزعزعة، نفسه وقد تم استبداله بنظام حكم أكثر ليبرالية.

من يؤمن بضرورة الصراع مع الموجة القومية المتعصبة، غير الرائجة والتى تعود إلى كتب التاريخ فى القرن العشرين عليه أن يفعل شيئاً، بنفسه.

يوسى بيلين- اسرائيل هيوم