كنت حينذاك أبلغ من العمر الـ 17. قدم أحد أعضاء المستوطنة “ميجرون” ليتحدث في فرع “بني عقيڤا”، الذي كنت عضوة دائمة فيه. وقتها كانت عشية السبت والفرع كان ممتلئاً بالناس عن بكرة أبيه. أوضح عضو المستوطنة “شاي”، مدى ضرورة الهجرة والاستقرار في المستوطنة، التي كانت تُعتبر إحدى الكتل الاستيطانية الأولى التي أقيمت في الأراضي المحتلة من خلال انتهاك سافر للقانون الإسرائيلي.

تصدت “ميجرون” وقتها لخطر إخلاء المستوطنين ودعا “شاي” الجميع إلى ترك كافة مشاغلنا من الدراسة الثانوية أو أى أنشطة أخرى والاصطفاف تحت هدف النضال. جلست إلى جانبه فتاة في سني كانت تدّعم وتؤكد كلامه وتحدّثت عن مشاركتها في المجهودات والمساعي في سبيل إنقاذ المستوطنة. وفي ختام كلمته أعلن “شاي” أنه لا يوجد حل وسط – إن أردنا أن نحقق شيئاً علينا أن نختار طريق التطرف. في الحالة التي بدت لي وقتها أنها غريبة، لم يعترض أحد. لم يعتقد أحد أننا نتحدث عن اجتياز الخط الأحمر، أو عمل غير مشروع.

في النهاية، لم يتم إخلاء “ميجرون” في تلك المرحلة (إلا بعد عشر سنوات)، في أعقاب المجهودات الجبّارة التي بذلها مستوطنيها ومجلس المستوطنات اليهودية في الضفة وغلاف غزة. ومن هناك كانت “كيتسارا” هي الطريق إلى النضال من أجل “عمونة”، الذي صوحب بقضبان حديدية أُلقيت على أفراد الشرطة، وإلى التصدي لإخلاء منازل “درينوف” في بيت إيل بتشجيع ودعم وزير التعليم “نفتالي بينيت” – وهو النضال الذي دار فقط قبل عدة أشهر، وحتى أحداث جماعة “دفع الثمن” “تاج محير” العديدة وعملية القتل في دوما.

وفي خضم تلك الأحداث كان هناك فك ارتباط وإخلاء للكتلة الاستيطانية جوش قاطيف. سيزعم كثيرون أن فشل النضال من اجل الكتلة الاستيطانية كان خط الكسر للصهيونية الدينية. خط الكسر الذي انقسمت بعده الصهيونية الدينية إلى معسكرين: معسكر يقبل حكم الدولة، مهما كانت صعوبته، ومعسكر آخر قرر أن يبذل كل ما في وسعه من أجل وقف الإخلاء القادم، واعتقدوا أن خوف الدولة ليس بالضرورة يسري عليهم. أحد المظاهر الأولى لهذا الكسر، كانت الدعوة الشعبية الامتناع عن الصلاة الخاصة بسلامة الدولة التي تُذكر في أيام السبت والأعياد، والتي صوحبت بجدال جماهيرى كبير.

الكسر بدأ من قبل

لكن الحقيقة هي أن الكسر قد بدأ قبل ذلك: من خلال شراء أراضي باحتيال من سكان عرب في القدس الشرقية من خلال استخدام وثائق ملكية مزوّرة؛ وبناء مستوطنات نائية عن المستوطنات الرئيسية بحجة أنها مجرد “حي” يتبع تلك المستوطنة بهدف توسيعها؛ وإنشاء طرق توصل إلى المستوطنات على أراض فلسطينية خاصة من أجل تقليص المساحة الفلسطينية بقدر الإمكان. نحن نتحدث عن أعمال احتيال تمت بشكل أو بآخر منذ بداية عصر إقامة المستوطنات، وتمت العديد من المرات في ظل رعاية الحكومة أو إسهامها.

وبالتالي، بالنسبة لي – الصهيونية الدينية التي نشأت عليها – منذ إقامة المستوطنات تواجه تناقضاً داخلياً عميقاً: فمن ناحية، تتفاخر بقيم كبار الوسط، والإسهام العظيم الذي منحه رجالها في بلدات التطوير مثلما زعم هذا الأسبوع “بينيت” وفي نسبها المرتفعة في الجيش، ومن ناحية أخرى، تشجع بحيادية على الانتهاك المتواصل والموسع لحقوق الإنسان الخاصة بالفلسطينيين في كل أرجاء المناطق المحتلة. بلا حرية حركة، ومن دون حق لإجراء عادل وتحت معيار حكم عسكري.

لذلك لا عجب أن ما قد بدأ مع إقامة مستوطنات غير شرعية، قد أدى إلى حياة يومية عنيفة تشمل حرق لشجر الزيتون الفلسطيني ومنها تطورت الأحداث لتصل إلى حرق أسرة كاملة وهي نائمة. هذا هو الاتجاه الأحادي الذي تقود السيطرة على الأراضي المحتلة إليه، حتى وإن كانت صُعِقت أغلب الصهيونية الدينية لمقتل دوما وصور زفاف السكاكين.

هذا ما كتبه الراحل “أوري أليتسور”، أحد أبرز كتّاب جمهور المتدينين ومحرر سابق في موقع “ماكور ريشون” في مقاله “أخطأنا عندما لم نقم بيتسيلم”. “المواطن اليهودي في إسرائيل محمي بدعائم عدة من الدفاع. هناك قانون ومحكمة عليا وصحافة وهناك تقريباً لكل شخص علاقات شخصية أيضاً. الشخص العربي غير محمي على الإطلاق أمام السلطة الإسرائيلية. كان علينا أن نكون عنوانه…

كان علينا، نحن بالتحديد، المعنيون باستمرار السلطة الإسرائيلية، أن نعرف أن هذه السلطة لن تدوم طويلاً إن فسدت واستوحشت، وأن نفهم أنها ستفسد وستسوء بطبيعة الحال، إن لم تكن عنصراً مدنياً، ونقدياً، ومستقلاً، ونافذاً تحافظ على نزاهتها وتدين هوامشها العفنة”.

كانت نتيجة “أليتسور” مغايرة عن نتيجة اليسار. زعم “أليتسور” أنه ينبغي ضم الأراضي المحتلة، لكنه أيضاً فهم المنحدر الزلق الذي نقترب منه، إذا لم يتوقف الوضع الذي فيه يبقى ملايين الناس بلا حقوق.

عيدي أداميت- يديعوت احرنوت