دروس الماضى وأهداف المستقبل : مسألة الضربة الإستباقية لأنفاق حماس

بالنسبة لإسرائيل، السؤال، هو ليس فقط كيف التصدي للأنفاق التي حفرتها حماس، بل كيف ستبدو المواجهة التي ستندلع بعد العملية. لم تحقق جولات القتال المتكررة ضد حماس في قطاع غزة منذ 2009 الأهداف الاستراتيجية اللازمة وهي: تحقيق ردع طويل المدى، إلحاق ضربة موجعة بحماس وإضعافها وفرض قيود صارمة على استقوائها العسكري. ليس من المفاجئ أن نجد حماس، التي تعدّ نفسها في تلك الأيام للمواجهة القادمة مع إسرائيل، تبذل جهوداً مكثفة في حفر أنفاق. وقد أثبتت معركة “الجرف الصامد” لها أن الأنفاق الهجومية، التي حُفرت تحت حدود قطاع، كانت تقريباً الآداة الاستراتيجية الوحيدة، التي حققت بواسطتها إنجازاً كبيراً.

إن معظم “المفاجآت”، والجهود العسكرية الأخيرة التي قامت بها حماس – قذائف صاروخية بعيدة المدى، وطائرات بدون طيار وفرق بحرية خاصة – قد باءت بفشل ذريع. على خلفية ذلك انجرفت إسرائيل إلى إجراء بري محدود، وإلى مواجهة استغرقت 50 يوماً وانتهت من دون تسوية، تشمل إخلاء القطاع من السلاح.

يميز عدم الرغبة المتبادلة في الانجراف إلى جولة مواجهة أخرى، العلاقات بين الطرفين في الوقت الراهن. فمن ناحية إسرائيل، عدم رغبتها في التصعيد يمنع التعاطي الصريح مع استقواء حماس، وتتسم سياستها بتشاؤم إلزامي نابع من الصعوبة في فرض حظر المؤن التي تدخل غزة، وخاصة مواد البناء – حيث هناك ارجحية كبيرة في أن هذه المؤن تُستخدم لأهداف زيادة القوة العسكرية.

في الحقيقة، أثار تصريح “إسماعيل هنية” العلني حيال حفر الأنفاق، ومخاوف المواطنين في غلاف غزة النقاش حول هذا التهديد، لكن ينبغي أن نفهم أننا لسنا بصدد وضع جديد، بل تحدي مفهوم بعمقه من قبل القيادة العسكرية والسياسية في إسرائيل. ولهذا السبب، من الضروري أن يكون بحث مسألة الرد الإسرائيلي رصيناً ويتطرق أيضاً الخيار شبه المؤكد للتصعيد العسكري الذي سيلحقه وأهداف المواجهة القادمة، وليس فقط مغزى الرد الفوري.

في صندوق الأدوات الحالي الخاص بإسرائيل ليست هناك وسائل لردع حماس عن استمرارها في بناء قوتها، بما في ذلك حفر الأنفاق. إن عمليات إعادة إعمار القطاع قد تؤثر على استعدادها للمواجهة العسكرية مع إسرائيل على المدى القصير، لكنها لن تجعلها تتخلى عن تطلعاتها العسكرية على المدى المتوسط والطويل. وبناء على ذلك، تكون القضية المحورية التي تواجه صناع القرار في إسرائيل هي مسألة ما هو الخط الأحمر، الذي إن قامت حماس باجتيازه استلزم الأمر عملية عسكرية مستهلة ضد الأنفاق. يبدو، أن هذا الخط يجب أن يكون رصد الأنفاق التي تجتاز بشكل مؤكد الحدود، ومن المؤكد أو هناك احتمال كبير أن يكون هناك قرار قد اتُخذ داخل حماس بالشروع في عمليات عسكرية ضد إسرائيل على المدى الآني.

في واقع مماثل، يعتبر فيه الوضع المتشكل لا يطاق، اعتادت إسرائيل في الماضي على التفكير في حرب وقائية، أو ضربة استباقية. حرب وقائية، هي مبادرة لعملية ضد بنية القوة الاستراتيجية للعدو – من دون معلومات ملموسة استهلالية عن توقيت تنفيذ التهديد وتطبيقه من قبل العدو. أما الضربة الاستباقية فهي الضربة التي تُطلق قبل أن يشن العدو ضربته، لكنها تتم عندما يكون هناك يقين تجاه نيته باستخدام القوة في توقيت قريب.

إن الحرب الوقائية والضربة الاستباقية معروفين جيداً في المفهوم الأمني لدولة إسرائيل، بداية من العدوان الثلاثي في عام 1956 (حرب وقائية)، وعملية “موكد” في عام 1967 (ضربة استباقية)، وأسلوب ضرب المفاعل النووي في العراق في عام 1981 وحتى ضرب المنشأة النووية في سوريا المنسوبة لها في 2007 (حرب وقائية). لكن، روح العصر، أي عدم التسامح في الساحة الدولية مع المبادرات الهجومية وكذلك تغير البيئة الاستراتيجية وكون العدو في أغلب الأحوال متداخل بين السكان المدنيين، قلل من القدرة على تنفيذ حرب وقائية وضربة استباقية معاً، وكذلك فاعليتهما.

لهذا المنظور، في السنوات الأخيرة يدور نقاش، عام أيضًا، حول ضرورة شن حروب وقائية ضد القدرات العسكرية التي يبنيها حزب الله في لبنان، والتي يكمن فيها تهديداً أخطر كثيراً مما في أنفاق حماس، وحتى الآن لم يتُخذ قرار للتصدي لهذه التشكيلات. هل هذا المنطق مختلف مع حماس؟ هناك عامل حرج، بوسعه أن يساعد في اتخاذ قرار مماثل، ألا وهو وجود استخبارات نوعية. يجعل غياب استخبارات دقيقة بخصوص مكان الأنفاق من القضية، قضية غير عملية وتخلق وضعاً يكون فيه الطريق الوحيد بالنسبة لإسرائيل للتعاطي مع التهديد هو احتلال القطاع وضرب النظام في حماس ضربة موجعة، رغم المخاطرة بالتعرض لانتقاد دولي وإلحاق ضرر جسيم بالمواطنين. هذا الإجراء الواسع، الذي يعيدنا للسيطرة على غزة، ليس من الموصى به. في مقابل ذلك، فإن الصورة الإستخباراتية الموثوقة تخلق عدداً من البدائل.

البديل الأول بالنسبة لإسرائيل، هو التعامل الموضعي مع الأنفاق التي تجتاز الجدار والمحفورة داخل أرضها. في هذه الحالة على العملية أن تكون محدودة ومركزة على الأنفاق الخارجة، ومدعومة باستخبارات دقيقة ومسندة برسائل إلى حماس بأن هذه خطوة وقائية وأنها لا تعكس نية للتصعيد.

البديل الثاني، هو التعامل العسكري، الذي يشمل كافة الأنفاق على مدى 3-4 كم من الجدار – حتى مشارف المنطقة المدنية في القطاع. هذا مخطط أوسع، على الرغم من أنه أيضاً محدود في حجمه، مخطط قائم على نمط العملية البرية للجيش الإسرائيلي في “الجرف الصامد”. البديل الثاني، وفي حالة أقل البديل الأول، يحويان في طياتهما استعداد كبير للتصعيد ولنشوب جولة قتال أخرى واسعة النطاق.

لذلك لايوصى لإسرائيل أن تتبنى والأفضل لها أن تختار بديلاً ثالثاً أساسه التروى، وتطوير حل تكنولوجى وتحسين المعلومات الإستخباراتية من خلال نية لإطالة فترة الهدوء بقدر الإمكان. بالطبع إذا تم تطوير وتطبيق تقنية لتحديد مواقع أو إغلاق الأنفاق فسيكون من السهل تبنى بديل التروى وبناء الجاهزية للمواجهة القادمة. هذه التقنية تمنح إسرائيل المساحة التى تريدها كى تلتقط أنفاسها، وتعد خطة عمل ضد حماس علماً بأن الأنفاق لن تمثل بعد ذلك ورقة استراتيجية مفاجئة كما هى اليوم؛ كما أثبتت منظومة القبة الحديدية فى جولات القتال الأخيرة أن لديها قيمة استراتيجية هامة جداً  بفضل قدرتها على إحباط تهديد الإطلاق متعدد المسارات بشكل كامل تقريباً، فى كل مناطق إسرائيل.

يجب التسليم بأن منظومة ” القبة الحديدية” تحت الأرضية ستغير قدرتها على المناورة لصالح إسرائيل فى المواجهة القادمة. لهذا السبب من الجدير التوصل سريعاً إلى حلول لتوفير ميزانيات تسمح بتطبيق التقنيات التى تضمن تحديد دقيق لمواقع الأنفاق. لكن طالما أن مثل هذا الحل لم يتم إيجاده فإنه كلما زاد التيقن من اندلاع مواجهة فى المستقبل القريب، كلما كانت هناك حاجة لإعطاء أولوية وقوة لقضية الأنفاق، عن طريق ضربة استباقية أيضاً.

إن البدائل التى تم تفصيلها تختلف بالفعل فى علاقتها بمسألة الضربة الوقائية أو مسألة الضربة الإستباقية، لكن هناك أساس واحد مشترك لها جميعاً؛ وهو أن المواجهة القادمة، عاجلاً أم آجلاً، سيتم فرضها علينا من جانب حماس. لذلك فإنه بحسب الخبرة، يجب تفضيل خيار الضربة الإستباقية. من هنا فإن السؤال الأول الذى يجب أن يطرح – والذى هو أهم من مسألة الأنفاق فى وجهة النظر الإستراتيجية- هو ماهو هدف المواجهة المستقبلية وماهو مدى استعداد إسرائيل لها. إن أساس وجود التوازن الإستراتيجى الحالى بين إسرائيل وحماس هو الفشل الذى ينبع من عدم وجود هدف استراتيجى صحيح للمواجهات السابقة.

إن طابع سير المعركة فى عملية ” الجرف الصامد” لم يسعى إلى تغيير الواقع بين الطرفين فى اليوم التالى للمعركة، وبالفعل، ظلت إسرائيل وحماس فى حالة “تعادل إستراتيجى غير متماثل”، لم تضمن تغييراً جوهرياً فى الوضع الذى سبق الخروج إلى المعركة. إن جولة أخرى وفقاً لقواعد اللعبة تلك، لايوصى بها، حيث أنها ستكلف الطرفين ثمناً باهظاً دون وجود نتائج إيجابية لأمن إسرائيل على المدى البعيد.

لذلك قبل الخروج إلى أى معركة، على إسرائيل أن توضح مع نفسها الأسئلة الأساسية فيما يتعلق بالأهداف التى تعمل من أجلها، وماهو مدى استعدادها، وكيف يمكن أن تلحق الضرر الكبير بالذراع العسكرى لحماس لدرجة إملاء شروط أفضل لإنهاء القتال؟ وماهو الطريق لمنع تنامى قوة حماس فى المستقبل؟ وهل الإبقاء على حماس كعنوان للمسئولية عن غزة هو مصلحة لإسرائيل أم أنه من الصحيح التحرر من هذا الإفتراض بل والسعى نحو إنهاء حكم حماس فى غزة؟.

خلاصة القول، فى سلة الإعتبارات الحالية أمام قطاع غزة، الحل الأمثل لإسرائيل هو التوصل إلى حل تكنولوجى ضد تهديد الأنفاق الهجومية، يسمح بتأجيل المواجهة التى لامفر منها مع حماس والوصول إليها فى موقف أفضل حين تندلع.

لكن عدم إيجاد مثل هذا الحل يشكل معضلة فى الوقت الحالى فيما يتعلق بأسلوب العمل المطلوب. على إسرائيل أن تحدد أن إدراك أن هناك أنفاق تخطت خط الحدود إلى إسرائيل، وأن حماس تستعد للعمل منها، يتطلب ضربة استباقية. وإذا كان هناك تصعيد بعد مثل هذا الهجوم إلى المواجهة الكاملة- يجب ان تكون قصيرة وقوية جداً، وتقوم على أساس هدف استراتيجى واضح ولديه أفق لتغيير واضح فى ميزان القوى والديناميكية بين الطرفين- على خلاف كل الجولات السابقة. إن أى اختيار آخر سيجعلنا نجلس لنناقش ذات الأمر فى عام 2016، بعد مواجهة أخرى أمام حماس فى قطاع غزة.

 

عاموس يادلين

معهد ابحاث الامن القومي