تزايدت في السنوات الأخيرة القوى التي تدفع إلى واقع الدولة ثنائية القومية في ساحة الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. يرجع أصل هذا التوجه إلى التجميد المتواصل في العملية السياسية، وبالأخص إلى فشل جولة المحادثات الأخيرة (حتى الآن) بين إسرائيل والفلسطينيين، التي أديرت بوساطة وزير الخارجية الأمريكي “جون كيري”. يعكس هذا الإخفاق، شأنه شأن فشل جولات محادثات سابقة، غياب الرغبة والقدرة السياسيتين للقيادات في إسرائيل وفي السلطة الفلسطينية على جسر الفجوات بشأن الشروط التي بإمكانها أن تسمح بالعودة إلى طاولة المباحثات، وبالطبع في المواقف السياسية. ولأن هذا هو واقع الحال، يبدو أنه لا توجد فرصة حقيقية للتوصل في المستقبل المنظور إلى تفاهمات في القضايا المركزية للصراع، سواء جميعها أو بعضها، كأساس لتشكيل اتفاق دائم يقوم عليه مبدأ دولتين لشعبين.

أغلب التسويات وفقًا للاتفاق المبدئى، الذي تم التوقيع عليه بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في عام 1995 لازالت باتفاق الأطراف حتى اليوم، لكن هذا الوضع المؤقت مشبع بالتوتر. إن التطورات الكبرى التي سُجلت في السنوات القليلة الماضية على ساحة الصراع، كانت على خلفية الطريق السياسي المسدود.

في صيف 2014 وقعت في قطاع غزة معركة أخرى واسعة النطاق بين إسرائيل وحماس، وفي خريف 2015 نشبت من جديد موجة إرهابية فلسطينية، بدأت بخط التماس في القدس وتمددت من هناك إلى سائر أرجاء المدينة، وإلى الضفة الغربية وإلى التجمعات السكانية داخل الخط الأخضر. ينبغي أن نضيف إلى ذلك الخصومة بين السلطة الفلسطينية وبين حماس، التي تسيطر على غزة، وفقدان الشرعية للقيادتين في نظر الجمهور الفلسطيني. بخلاف ساحة الصراع نفسها، وبقدر ما في هذه الساحة نفسها، يظهر توجه نحو تأكيد العوامل الدينية للصراع، على حساب جوانبه القومية-السياسية التاريخية. هذه التطورات، التي يكمن فيها خطر التصعيد الفعلي، تهدد باستبعاد العملية السياسية مجدداً، والمتسمة بالتملص على كل حال، عن جدول الأعمال الإسرائيلي والفلسطيني على حد سواء.

وفي نفس الوقت، تدور معركة بمبادرة فلسطينية-عربية في الأصعدة الدبلوماسية، والأكاديمية والاقتصادية، ضد سياسة إسرائيل في القضية الفلسطينية – في مؤسسات دولية مختلفة، وفي الإعلام العالمي وفي الرأي العالم العالمي. يمكننا أن نرى في هذه المعركة مظهراً للتخلي الفلسطيني عن التفاهم المباشر مع إسرائيل والسعي إلى تحديها بهدف فرض المطالب الفلسطينية للتسوية عليها. هذه العمليات والتوجهات تشجع في إسرائيل التمسك بالمواقف المفترض أن تصعّب على الحكومة تشكيل أساس لاستئناف المفاوضات، بحيث تصبح مقبولة أيضاً لدى الفلسطينيين.

يبرز في الخلفية تآكل في استعداد المجتمع الدولي للتركيز على العملية السياسية بين إسرائيل والفلسطينيين وبذل جهود بهدف إحيائها من جديد، كونها منشغلة بجبهات وأزمات أخرى – من بينها التقلبات في الشرق الأوسط، والتي يتم في بعضها ترسيخ خلفية لاستئناف الصراع بين الكتل السياسية، وأزمة الهجرة لأوروبا. كل هذا يصرف الاهتمام الإقليمي والدولي عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ويسمح للطرفين بتأجيل اللحظة الضرورية لاتخاذ قرارات صعبة تنطوي على مخاطر انتقائية وأمنية-استراتيجية ولها مغزى تاريخي. لهذا السبب، على ما يبدو، فإن الوضع الحالي غير مريح على الإطلاق بالنسبة للأطراف نفسها.

عصر مفهوم “دولتين لشعبين”

على خلفية الجمود السياسي، وتداعياته السياسية والأمنية، يُطرح السؤال: هل وجود اتفاقية متفق عليها بروح مبدأ الدولتين مازال مناسباً؟ الإجابة على هذا السؤال هي: نعم، إن وجود اتفاقية قائمة على أساس دولتين قوميتين مازال مناسباً، على الرغم من عدم وضوح الأمل في الفكرة وإلى أي مدى نقطة الانعكاس قريبة، وهى التي ستجعل منه غير مناسب.

مازال التقدير بأنه من دون الانفصال عن الفلسطينيين في الضفة الغربية، لن تتمكن إسرائيل من أن تضمن مستقبلها كدولة يهودية وديموقراطية، يلقى الدعم من طبقة واسعة من الجمهور الإسرائيلي، كما أنه يوضح بشكل جزئي، على الأقل، نسبة التأييد بين الجمهور لحل الدولتين. وقد عاد رئيس الحكومة “بنيامين نتنياهو” بنفسه ليكرر أن الفكرة سارية، كما دعا الفلسطينيين مجدداً إلى العودة لطاولة المفاوضات “من دون شروط مسبقة” – على الرغم من ملازمة ذلك لشروط إسرائيلية على إبرام اتفاقية والتحفظات بشأن اعداد تسوية متفق عليها.

كذلك لدى الفلسطينيين، لم يتخل قطاع كبير من الجمهور عن فكرة الاستقلال السياسي إلى جانب دولة إسرائيل. تسعى السلطة الفلسطينية من جانبها إلى استقلال يتم تحقيقه، إن لم يكن عن طريق مفاوضات مع إسرائيل، فليكن عن طريق المنظومة الدولية. يشير إلى ذلك نشاطها المكثف في حشد اعتراف دولي بدولة فلسطينية، والذي سجل في السنوات القليلة الماضية إنجازات لا يستهان بها في دول غربية. وبعبارة أخرى، بشكل أو بآخر – القيادة الفلسطينية، وخاصة قيادة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، متمسكة بفكرة الدولتين.

هذا إلى جانب أن المسئولين الدوليين المعنيين بالعملية السياسية – الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وروسيا، والأمم المتحدة، وكذلك دولة عربية مركزية – يتحدثون حتى الآن بمفاهيم مثل حل الدولتين، حتى وإن كانت هناك بينهم خلافات جوهرية بشأن طريقة الدفع بها. من جانب هؤلاء المسئولين، وجود حل يقوم على اتفاقية مفروضة ليس موضوعاً، في هذا الوقت، بأولوية كبرى في جدول الأعمال.

وبالتوازي مع ذلك، ترددت خلال سنوات بين أوساط اليمين في إسرائيل دعوات لضم المنطقة (ج) في الضفة الغربية، وهو ما يعني السعي إلى فرض واقع ثنائي القومية داخل دولة واحدة. هذه الأفكار تستند إلى اعتقاد بأنه يمكن الفصل بين الحقوق الإقليمية والحقوق الفلسطينية للفلسطينيين.

على خلفية الجمود السياسي، سُجل أيضاً داخل المجتمع الفلسطيني في السنوات القليلة الماضية اهتماماً دائماً بفكرة الدولة الواحدة. هذا التصور يستعيد الفكرة التي توسطت أساس المقاومة الفلسطينية ضد دولة إسرائيل قبل الاعتراف بها وقبل التوجه إلى طريق المفاوضات، الذي أدى إلى التوقيع على اتفاقات أوسلو. فضلاً عن ذلك، لهذا التوجه صدىً على الساحة الدولية، لاسيما في أوروبا، وعلى ما يبدو أنه يمثل تقويضاً للاعتقاد بأن حل الدولتين بعيد المنال. من هنا يأتى السؤال: هل حل الدولة الواحدة سار المفعول؟ الإجابة على هذا السؤال: كلا. على الأرجح أن واقع دولة لشعبين سينشأ فعلياً، إن لم يطرأ تغيير على الوضع السياسي-الإقليمي على ساحة الصراع. لكن وجود عملية في هذا الاتجاه سيحفظ بل وسيزيد من التوتر القائم بين المجتمعين القوميين، الإسرائيلي والفلسطيني، وسيصعد بشدة من التوتر بينهما على خلفية أيديولوجية-دينية، بالإضافة إلى الخلفية القومية. ومثلما تشير تجارب الماضي والحاضر، فإن هذه التوترات ستغذي التطرف والعنف. وبالتالي، واقع الدولة الواحدة – سواء كان سيتطور من تلقاء نفسه إثر عجز الطرفين عن استئناف مفاوضات ملموسة من شأنها أن تؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، أو سيكون نتيجة لضغط دولي (وهي في الواقع غير معقولة في الوقت الحالي) – ربما سيمثل تسوية، لكن ليس حلاً.

من أجل أن نعمل على استقرار الساحة، وأن نضيف جوانب لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين خاصة، وبينها وبين دول عربية عامة، وأن نعزز ماهو قائم (خاصة على الصعيد الأمني والاقتصادي) – لا يجب أن نبحث عن بديل لحل الدولتين. وبدلاً من ذلك، من أجل أن نصرف الديناميكية في ساحة الصراع عن اتجاه نقطة الانعكاس، التي دونها سيُسدّ الطريق تماماً أمام حل الدولتين، وبرغم المصاعب المعروفة والظروف السياسية الراهنة في الطرفين، ينبغي أن نبحث عن مخرج من الجمود المتواصل الذى تغرق فيه العملية السياسية. لهذا السبب سيتطلب قدر حاسم من المسئولية الوطنية، وشجاعة سياسية ورؤية تاريخية بين القيادات وبين الجمهور – في كلا الطرفين على حد سواء.

نحو مخرج من الطريق المسدود

من الصعب بمكان أن نفكر في صيغة لاستئناف المفاوضات وإداراتها، التي لم يُستثمر فيها فكر أو لم تجتز مرحلة تطبيقها الأولي. إننا بصدد مبادرات إجرائية، ومخططات لتسوية دائمة متفق عليها وخيارات لخطوات مستقلة (إسرائيلية وفلسطينية على حد سواء). وبعبارة أخرى، ليس هناك ضرورة “لاختراع العجلة” بل إعادة النظر في المخططات التي نُفذت، والتي بُحث بعضها من قبل، ومن خلال نية لتطبيق الصيغة المناسبة من بينها لهذا الوقت.

إن بحث كافة المبادرات والمخططات الرسمية لتسوية متفق عليها، ووالتي طُرحت بل وبُحثت خلال العقدين الأخيرين، بمثابة ميزة كاملة، وتلك هى ملامح العملية السياسية. ينبغي أن نضم إلى كل ما سبق كافة المبادرات والمقترحات غير الرسمية الكثيرة التي طُرحت أمام الجمهور ومتخذي القرارات من قبل مسئولين من المجتمع المدني. لا خلاف على تعقد الوضع الجيوسياسي والداخلي، الإسرائيلي والفلسطيني، المتفاقم بداخل بيئة غير مستقرة، عنيفة ومعقدة. لكن، من الصعب أن نختلف في التقدير القائل بأنه كلما مر الوقت، تتفاقم القضايا نفسها وتتعقد ويصعب حلها وهذا ليس في صالح إسرائيل، ولا في صالح الفلسطينيين أيضاً.

الخيار السياسي الإسرائيلي

من ناحية دولة إسرائيل – حان الوقت لبلورة مبادرة سياسية رصينة ومتدرجة. إن مصلحة إسرائيل القومية طويلة المدى – وهى ضمان مستقبلها كونها الدولة القومية الديموقراطية والآمنة للشعب اليهودي – ترتكز على تقسيم إقليمي للمنطقة التي تقع بين الأردن والبحر المتوسط ودولتين قوميتين. لهذا، على إسرائيل، في المفترق الحرج الواقعة فيه، أن تتخذ سياسة فعّالة بهدف ترسيم حدودها في أقرب وقت ممكن بحيث تعكس أسس وجودها، مثلما ظهر فى إعلان الاستقلال: دولة ديموقراطية تتواجد فيها أغلبية يهودية.

مبادرة مماثلة ينبغي أن تكون موجهة للانفصال عن الفلسطينيين عن طريق السعي إلى استئناف المفاوضات (الإقليمية والثنائية) من خلال الاستعداد لوضع أية قضية رئيسية على طاولة المباحثات ومحاولة التوصل إلى حل شامل، وكذلك أيضاً السعي نحو تنفيذ خطوات مبدئية متفق عليها، تدفع بالأطراف إلى توجه الدولتين. إزاء صعوبة التقدم في هذه القنوات، ينبغي التحرك لخلق واقع دولتين وترسيم الحدود بينهما عن طريق خطوات مستقلة. هذه الخطوات المستقلة يمكن أن تنعكس، من بين ما ستنعكس عليه أيضاً، على تحديد الحدود التي ستُعلن أنها حدود مؤقتة، حتى تصل الشروط للاتفاق على حدود ثابتة إلى مرحلة النضج. وستكون الحاجة إلى مسألة المستوطنات حتمية، وستتطلب إعداداً للرأى العام واشراك الجمهور فى ضرورة الحسم، من أجل مستقبل الدولة اليهودية الديمقراطية. والسعى فى هذا الإتجاه، إذا قررت الحكومة الإسرائيلية بالفعل تنفيذه، سيتطلب بلورة موعد لخطة قومية لاستيعاب مواطنين يعيشون حالياً خلف الجدار الأمنى ( أو خلف أى خط آخر يتم تحديده كحدود مؤقتة)، وسن قانون إخلاء طوعى، وتعويض واستيعاب. كل هذه الأمور مطلوبة فى حالة التوصل إلى مفاوضات.

على أى حال وفى أى مسودة تختارها الحكومة، عليها أن تعمل فى ذلك عملاً موجهاً فى المجلس السياسى الأمنى المصغر، ووزارات الحكومة المعنية، وكذلك فى مجلس الأمن القومى وإدارة سلام. ومن المقترح أن تركز هذه الإدارة على إنعاش المواقف الرسمية لإسرائيل فيما يتعلق بالمبادرات السياسية المختلفة، واختيار مايساعد منها على رسم الطريق إلى الوجهة المقصودة. وهذه الهيئات ستبحث بالتنسيق بينها مبادرة السلام العربية كإطار للتفهم الإقليمى التى تدعم المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين، من خلال إعطاء ضمانات ووعود لإسرائيل ودعم القيادة الفلسطينية فى اتخاذ القرارات الصعبة. تنسيق هذا المسعى منذ بدايته وفى خلاله مع الولايات المتحدة وأوروبا من المتوقع أن يسهل على إسرائيل فى حشد الدعم الأمريكى بشكل خاص والعالمى بشكل عام فى مواقفها ومطالبها، وهو ما يمكن أيضاً أن يؤدى بالسلطة الفلسطينية نفسها إلى العودة للتركيز فى القناة الثنائية. التطور فى هذا الإتجاه سيحدث بصورة حتمية- على حساب الخيار الإستراتيجى لقيادة السلطة الفلسطينية منذ ربيع عام 2014 فى القناة الدولية، وتتجاوز المفاوضات.

 

معهد دراسات الأمن القومي

بقلم: عينات كورتس وجلعاد سار