1-10-2014

بنديتا براتى ويورام شفيتسر

يستعرض المقال تقييماً للموقف المحلى والإقليمى لحزب الله حالياً من خلال التأكيد على الشكل الذى كيَفت المنظمة به نفسها مع التحدى القائم فيما يخص القتال فى سوريا إلى جانب قوات بشار الأسد، وبعد تحليل إستراتيجية حزب الله ووضعه الحالى ، يتعمق المؤلفون فى مسألة “الحرب القادمة” المحتملة بين المنظمة الشيعية اللبنانية وإسرائيل من خلال إبراز الدروس المستفادة التى من الممكن أن تستخلصها المنظمة من عملية الجرف الصامد ومن تدخله الحالى فى المعارك الدائرة على الأرض السورية.

أولا: الحرب فى سوريا تمنح حزب الله فرصة لتحسين قدراته العسكرية ومهارة القتال المختلط، وهو الأمر الذى من الممكن أن يؤدى إلى تحسين تكتيك القتال التقليدى وان يزيد استخدامه فى الحرب القادمة مع إسرائيل.

ثانياً: استخلاص الدروس والعبر من الحرب الأخيرة فى غزة – بسبب زيادة الحساسية السياسية والنفسية فى إسرائيل تجاه الهجوم على البنية التحتية الحيوية وعمليات اختراق أراضيها- من الممكن أن يساعد حزب الله فى صقل مفهومه العملياتى والإستراتيجى.

لقد أدى انتهاء جولات العداء الأخيرة بين إسرائيل وحماس فى قطاع غزة إلى مناقشة مسألة، من الذى خرج منتصراً من الجانبين ومن هزم. هناك من يزعم بأن الإنجازات العسكرية التى خرجت بها حماس من الحرب الأخيرة كانت قليلة جداً، وأن تلك الإنجازات قد تم تقلصت بشكل كبير فى مقابل الخسائر والأضرار التى لحقت بها فى مخرزونها من الوسائل القتالية وبنيتها التحتية وقيادتها العسكرية، وأيضاً بسبب الضرر البالغ الذى لحق بسكان المناطق التى تسيطر عليها فى قطاع غزة.

وفى الوقت ذاته يستمر الوضع السياسى والمالى لحماس فى التدهور، حيث أن المنظمة تواجه عزلة إقليمية متزايدة، وأيضاً الحاجة إلى إتاحة نشر قوات أمن تابعة للسلطة الفلسطينيةعلى طول حدود القطاع مقابل أى تخفيف ملموس للقيود الإقتصادية التى سعت المنظمة بقوة للتخلص منها.

فى المقابل يزعم الكثيرون أنه رغم كل هذه الإعتبارات يمكن أن تكون حماس راضية عن عملياتها العسكرية خلال عملية ” الجرف الصامد”: ليس فقط لأن المنظمة منعت إسرائيل من تحقيق نصر واضح، بل إنها فى الواقع قد نحجت فى أن تفرض على إسرائيل مواصلة القتال عن طريق رفض العديد من محاولات وقف إطلاق النار من خلال إبراز تحسن فى قدراتها فى حرب العصابات ومهارتها العسكرية منذ عملية الرصاص المتدفق.

وعلى الصعيد السياسى استطاعت حماس أن تعيد فرض نفسها على الخريطة السياسية الإقليمية كلاعب أساسى، وأيضاً – على الأقل وفق استطلاع للرأى أجرى مؤخراً- حصلت على تحسن هام حتى وإن كان قصيراً فى مداه الزمنى، فى شعبيتها فى الأوساط الفلسطينية العادية.

والأسئلة المتعلقة بالإنجازات والخسائر التى حققتها حماس وإسرائيل فى جولة الأعمال العدائية الأخيرة مهمة ليس فقط لتحديد التطورات السياسية المستقبلية فى قطاع غزة، ولكن أيضاً فيما يتعلق بتطور العلاقات المعقدة بين الجانبين المتخاصمين، وعلى الصعيد العملى فإن مرحلة القتال ومرحلة إنهاء القتال فى عملية الجرف الصامد عام 2014 قد تمت دراستها عن طريق أحد أعداء إسرائيل الأساسيين فى المنطقة وهو حزب الله اللبنانى والذى يستخلص منها الدروس ليطبقها فى ” حربه القادمة” مع إسرائيل .

وبعد تقييم الوضع المحلى والإقليمى الحالى لحزب الله والتحليل الإستراتيجى الشامل له، يتعمق هذا المقال فى مسألة احتمالية ” الحرب القادمة” بين المنظمة اللبنانية الشيعية وإسرائيل، من خلال إبراز الدروس المستفادة المتعلقة بذلك التى من الممكن أن تستخلصها المنظمة فى عملية ” الجرف الصامد” هذه فى مقابل تركيزه على التدخل المستمر فى سوريا.

الحرب الوشيكة؟ إستعداد حزب الله منذ ” النصر الإلهى”

تطورت فى العقود الأخيرة بشكل كبير العلاقات وأنماط المواجهة بين إسرائيل وحزب الله. وقد استمرت مرحلة العداء الأولى منذ عام 1982 وهو العام الذى تم فيه إنشاء المنظمة وحتى عام 1990 وعلاقة ذلك بالحرب الأهلية فى لبنان وفى أعقاب التدخل العسكرى الإسرائيلى الشامل فى هذه الدولة.

وفى نفس الفتره تم إنشاء حزب الله وفق تكتيكات تراوحت بين الهجمات التقليدية ضد جيش الدفاع الإسرائيلى والقتال غير المتكافئ والأعمال الإرهابية على الأراضى اللبنانية وخارجها. والإستخدام المتزايد للعربات المفخخة، والعمليات الإنتحارية وخطف الإسرائيليين والأجانب. ومع انتهاء الحرب الأهلية فى لبنان تغيرت قواعد اللعبة بين إسرائيل وحزب الله، عندما اقتصرت دائرة القتال على ” الحزام الأمنى” وهى المنطقة التى شكلت حوالى 10% من إجمالى المناطق اللبنانية، والتى كانت تحت السيطرة العسكرية سواء لجيش الدفاع الإسرائيلى أو جيش جنوب لبنان.

وعلى الرغم من جولتى التصعيد العسكرى فى عامى 1993 و 1996 فإن العلاقات بين إسرائيل وحزب الله تميزت بتأثير كبير للمنطق الملزم بضبط النفس المتبادل والتفاعل. حتى أن ذلك قد ظهر من خلال مذكرة تفاهم مكتوبة، لم يتم توقيعها، وفيها تمت الإشارة إلى ان جيش الدفاع الإسرائيلى سيمتنع عن أى إضرار متعمد للمواطنين أو الأهداف العسكرية، فى مقابل امتناع حزب الله عن تنفيذ هجمات مماثلة فى مناطق الخط الأخضر الإسرائيلى.

وفى أعقاب الإنسحاب الإسرائيلى أحادى الجانب من لبنان إلى ما وراء الخط الأزرق فى عام 2000، تقلصت قواعد المواجهة المباشرة بين إسرائيل وحزب الله كثيراً، وقل ما عرف أيضاً بالمناطق المتنازع عليها مثل – مزارع شبعا- وهى المنطقة الواقعه تحت السيطرة الإسرائيلية، والتى يزعم حزب الله والحكومة اللبنانية أنها منطقة لبنانية( فى حين ترى الأمم المتحدة أنها منطقة سورية).

وتغيرت قواعد اللعبة تماماً فى عام 2006 حينما قام حزب الله بتنفيذ عملية بالقرب من الحدود والتى كانت تهدف إلى خطف جنود من جيش الدفاع، لتتم مبادلتهم بأسرى لبنانيين كانوا فى إسرائيل آنذاك. وهذه العملية كانت السبب فى حرب لبنان الثانية التى استمرت 34 يوماً. وكان التصعيد العنيف نتيجة مباشرة لعدم التقييم الصحيح لحزب الله فيما يتعلق برد الفعل الإسرائيلى حال خرق حزب الله لقواعد اللعبة، وهو ما اعترف به مؤخراً الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله.

وبغض النظر عن ذلك كله فإن إسرائيل قد قامت بالرد على ما اعتبرته تلاعباً بقوة الردع الخاصة بها( سواء مع حزب الله أو على الصعيد الإقليمى، بشكل عام) عن طريق زيادة المخاطر سواء بواسطة زيادة مستوى الرد العسكرى أو توسيع نطاق العمليات إلى ما وراء الضفة الشمالية لنهر الليطانى.

لقد شكلت حرب لبنان الثانية دون شك حدث ” المساقط المائية” فى العلاقة الإسرائيلية مع حزب الله ومنذ انتهائها يعكف الجانبين على دراسة ذاتيه عميقة وتحليل أوضاعهم وحالتهم، عن طريق كشف نقاط الضعف الأساسية ومعالجتها، ومواجهة التحديات التى يضعها الخصم.

وفى حالة حزب الله فقد أدى ذلك الإستعداد إلى قوة عسكرية تجلت فى زيادة كبيرة لعدد المنضمين إلى صفوفه وزيادة مخزون السلاح والبنية التحتية وتحسين القدرة القتالية. كل ذلك عن طريق المساعدة المباشرة من إيران(وسوريا أيضاً). ووفق هذا المفهوم فإن حرب حزب الله القادمة مع إسرائيل من المتوقع أن تتجاوز الهدف الذى كان واضحاً فى عام 2006 وهو التحول من ميليشيات – جيش غير نظامى- وهو ما كانت عليه المنظمة فى الثمانينيات، إلى جيش مختلط ( أو جيش بدون دولة). وفى صيف عام 2006 كان التفسير بأن حزب الله اعتمد فى طريقة قتاله على دمج بين التكتيكات شبه التقليدية والتقليدية، من خلال الانفاق الفورى على تطوير وحدات صغيرة تستعمل تكتيكات حرب العصابات عن طريق استخدام السلاح المضاد والذى يرتبط بشكل عام بالجيوش النظامية.

ومنذ ذلك الحين عمل حزب الله على تطوير سلاحه التقليدي  وتدريب قواته والإستعداد  لتنفيذ عملية عسكرية تتميز بطابع تقليدى أكثر، واستمر ذلك جنبا إلى جنب  مع جهود المنظمة فى ترميم وتحسين  الملاجئ تحت الأرض  والبنية التحتية من الأنفاق  كماً وكيفاً  لكي يقلل أضرار   مهاجمتها من الجو، توازياً مع زيادة  حقيقية  في مخزون القذائف والصواريخ . وتحسين قدرات جمع المعلومات  وقدرات التجسس  المضاد  مثل أيضا  جزءاً من خطوات  تجهيز المنظمة  بعد حرب لبنان الثانية،  والذي  تمثل على سبيل المثال في تركيز المنظمة  على الإحتفاظ  بمنظومة  اتصالاتها   المستقلة  وتطويرها  ، والتى تشمل شبكة  ألياف بصرية  يتم تشغيلها برعاية ايران،  في المقابل  يركز حزب الله  في الفترة الأخيرة  على تدريب مقاتليه  على تنفيذ عمليات  خلف  الحدود الإسرائيلية .
خطوات التجهيزات العسكرية  تلك حدثت بالتوازي مع اطلاق التصريحات السياسية  الأكثر وضوحا حول الرؤية الاستراتيجية  لحزب الله  في كل ما يخص معركته القادمة مع إسرائيل .  لذلك فبعد أن  سمى نصر الله حرب لبنان الثانية بـ” النصر الرباني ”  قام بتسمية  جولة العنف  القادمة ضد اسرائيل ب ”  الحرب  الساحقة ”  وهو  التعبير الذي يشير بشكل واضح  إلى  أهداف التى تتطلع إليها  المنظمة  في كل ما يتعلق  بجولة القتال القادمة  التي ستدور بينها وبين إسرائيل . بطريقة مشابهة  فإن العقيدة العسكرية لحزب الله  بعد  حرب لبنان الثانية   تركز  على   ما وصفه نصر الله  ” التوازن الاستراتيجي ” إلى جانب  الرد الفوري عندما تتطرق المنظمة إلى توازن  القوى الجديد  على النحو التالي :  تل ابيب مقابل بيروت  ومطار بن جوريون الدولى مقابل مطار رفيق الحريري الدولي . بالإضافة إلى أن المنظمة صرحت  انها سترد  على اجتياح الجيش الإسرائيلي  للبنان  باجتياح مضاد  للمناطق الاسرائيلية،   وانها سترسل قواتها لإحتلال الجليل ،  ورغم ان هذا التصريح يأتي  كما يبدو  في اطار الحرب النفسية  إلا أنه يشير الى  رؤية  توضح طموح  نقل  ميدان المعركة   الى داخل أرض اسرائيل، وبهذا سيكون من  الخطأ الإعتقاد أن التجهيزات الشاملة للمعركة  التى يتم عملها على طرفي الحدود  منذ صيف عام 2006  تشير  إلى تلهف  الطرفين  للإنطلاق  نحو جولة  قتال  أخرى  بينهما.   بل أن العكس هو الصحيح : فمنذ انتهاء حرب لبنان الثانية  تظهر إسرائيل وحزب الله  إهتماما مشتركا  فى منع نشوب حرب جديدة  مما يؤدى إلى ضبط نفس  في الغالب  نابع من الافتراض المشترك  لكلا الطرفين  ان جولة القتال القادمة   ستكون صعبة   ومكثفة  أكثر بكثير  من أى مواجهات سابقة بينهما.  هذا الاعتقاد  الذى يستند إلى الردع المتبادل  قائم بالفعل منذ ذلك الوقت،  وهو الذي يفرض الهدوء الحذر ولكنه تقريبا  غير مخترق  على طول ” الخط الأزرق ” .
فى الوقت نفسه من الجدير بالذكر  ان  التروى المتبادل  بشان الهجمات المباشرة  لا يسرى في مجالات  اخرى :  على سبيل المثال  يمكن ذكر عدد  من العمليات الهجومية  التي نسبت لإسرائيل أغلبها اغتيال مسئولين كبار في حزب الله  مثل عماد مغنية  في فبراير العام 2008، وحسن لاقيس  في عام 2014. وبطريقة مشابهة  فإنه خلال الأعوام الثلاث  الأخيرة  هوجمت  عدة دوريات  كانت تنقل ادوات قتالية   متطورة داخل المناطق السورية ( وعلى الأقل مرة واحدة في لبنان) كانت متجهة لمنظمة حزب الله  بالإضافة إلى اتهام حزب الله  بتنفيذ  عدد من الهجمات  المتفرقة  ضد الجيش الإسرائيلي  على امتداد الحدود  مع لبنان وسوريا،   وكان نشطاء حزب الله على ما يبدو نشطين جدا  على الساحة الدولية  عندما تم إرسالهم من قبل المنظمة  لتنفيذ عمليات  ضد أهداف إسرائيلية  ويهودية  في تركيا  وآذربيجان  وقبرص  وبلغاريا  وتايلاند  وحتى فى بيرو .
وفيما يتعلق بهذا من المهم جداً ان  ندرس كيف  – إن حدث – غيرت الحرب  الأهلية في سوريا  وأثرت  على لبنان  من خلال حسابات حزب الله  فيما يتعلق بالحرب القادمة مع إسرائيل .
سوريا : وضع حزب الله  الحالي المعقد  واحتمال نشوب حرب أخرى مع اسرائيل

الحرب الأهلية الدائرة في سوريا  اضطرت حزب الله  إلى تركيز اهتمامه  على دعم  نظام بشار الأسد  سواء على المستوى السياسي  او على المستوى العسكري .  هذا الدعم لنظام الأسد منعه من عدة اعتبارات استراتيجية من بينها مصلحة حزب الله  في  محافظته  على شراكته السياسية مع سوريا  وكذلك المحافظة على ميزان  القوى  اللبنانية الداخلية الحالية .  شراكة حزب الله مع ايران  والدور السوري سواء  كعضو في “محور المقاومة”  الايراني  أو كالخلية السياسية  واللوجستية  التي تربط بين حزب الله  وبين طهران،  يسهم ذلك أيضاً في  الفهم العميق  لإلتزام  تنظيم نصر الله  تجاه الاسد .
لذلك أيد حزب الله بشكل  فعال  نظام الاسد  منذ انطلاق الثورة  في سوريا  في بداية عام 2011  رغم ان  دوره مر بتغيير تدريجي  – من كونه جهة  توفر الدعم السياسي  وتقدم النصح  الى جهة  تدرب  وتقدم الدعم العسكري  المباشر  في العمليات القتالية   الهجومية والدفاعية   على حد سواء.  كما نجح مقاتلو حزب الله بين وقت وآخر  في تقديم  الدعم  مدفعي  مهم للجيش السوري  والمساهمة  بشكل كبير  في تحقيق انتصارات  في عدد من المعارك  المهمة.  اعتمادا على  تركيزهم  المتصاعد على  التدريبات العسكرية  التقليدية  بعد حرب لبنان الثانية . هذه الانتصارات  تمثلت باحتلال  القصير في ربيع عام 2013  وهي بلدة  غرب سوريا  يقدر أنها  نقطة  الانطلاق  في ضمان  ممر آمن بين سوريا ولبنان  وبين دمشق والمناطق العلوية  على الشواطئ الغربية الشمالية  لسوريا .  في مارس 2014  قام حزب الله بدور مهم في احتلال بلدة  يبرود . الامر الذي ادى إلى عزل خط الإمداد  المهم  للثوار  وأدى الى طرد قوات المعارضة  من  مقرهم الرئيسي  الأخير  في منطقة  قلامون  التي شهدت الكثير من المعارك .
ليس الأمر مفاجئاً  اذ ان معركة حزب الله  في سوريا  اضطرت المنظمة  الى تفضيل جبهتها الشرقية، الأمر الذي شكل من ناحيته دافعاً  مباشراً آخر للإمتناع  عن الانجرار إلى حرب  أخرى  مع اسرائيل، وهو الأمر الذي يفسر ايضاً  لماذا ظلت سلسلة الهجمات  الجوية مجهولة الهوية ضد منشآت حزب الله  في سوريا  والتي نفذت خلال السنوات الثلاثة الأخيرة   ونسبت إلى إسرائيل، بدون رد مباشر وواضح  من ناحية المنظمة. وردت المنظمة على مهاجمة هدفها  في سهل البقاع في لبنان في (24 فبراير 2014 ) أيضا  كان نهاية الأمر محدوداً  نسبياً  وتضمن هجوما صاروخيا  ووضع عبوات متفجرة  على امتداد الحدود  مع هضبة الجولان ومنطقة مزارع شبعا،  الامر الذي دفع  اسرائيل الى الامتناع  عن التصعيد ولكن في نفس الوقت  أعربت عن مصلحة المنظمة  في منعها   من القيام بتصعيد آخر .
في المقابل  ومنذ بدء الحرب الأهلية في سوريا  ضاعف حزب الله من اهتمامه بوضعه على الجبهة الداخلية في لبنان.  أولاً  اسهمت الحرب الأهلية السورية في تعميق  الفجوات   السياسية الطائفية والتي كانت موجودة أصلاً  في لبنان  وزيادة حدة النبرة العدائية في  الخطاب السياسي .  بالاضافة  إلى الوضع  المعقد الحالي في لبنان  فإن الصراع  المستمر في سوريا   شكل ضغطاً إضافياً  على لبنان  عبر  التدفق الكبير  للاجئين السوريين  القادمين إلى لبنان  والذين   بلغ عددهم  مليون ومائتي الف   نسمة  تقريباً قبل أغسطس 2014 أى أكثر من 20 % من مجمل سكان لبنان . وهذا الرقم من المتوقع ان يرتفع الى  1,5 مليون  نسمة  نهاية هذا العام .
ثانيا : أنفاق حزب الله  في سوريا ودعمه  لنظام بشار الأسد حولا المنظمة  والطائفة الشيعية في لبنان  إلى هدف  لأعمال العنف  التي نفذت  من قبل تنظيمات سلفية جهادية   لبنانية . منذ عدة سنوات  وفي الاشهر العشرة الاخيرة  نفذت عدة عمليات  عنيفة ضد حزب الله   تضمنت  سلسلة من الهجمات  الانتحارية  ضد اهداف ايرانية  مثل السفارة في بيروت وضد بعض مواقع حزب الله  مثل مربع الضاحية  جنوبي بيروت .
ينظر حزب الله بجدية  كبيرة  للتهديد المتصاعد  من قبل المنظمات التكفيرية  – على حد وصف الأمين العام للمنظمة حسن نصر الله  –  وتنفق المنظمة الكثير  على مراقبة  وتأمين ممتلكاتها    ورجالها  وقراها  حتى انها وسعت  تعاونها  مع الجيش اللبناني .   هذا التعاون مهم من  الناحية   التنفيذية  والسياسية على حد سواء   اذ انه من المهم فعلاً لحزب الله  التأكيد على أن  التعامل مع  الهجمات  ضد المنظمة وطائفتها  تعتبر أعمالاً إرهابية   ذات طابع قومي وليس كمشكلة خاصة بحزب الله  فقط .  والحد من التهديد التكفيري له اهمية خاصة  بالنسبة  لحزب الله   لأسباب عدة  من بينها  مصلحته  في منع الإحتكاكات  الداخلية في لبنان وحاجته إلى أن تبدو صورته كمن يقدم الأمان  الحقيقي للطائفة الشيعية في الدولة   كونها تمثل العمود الفقري  لمناصرة  حزب الله في لبنان  .

في مسألة الاستقطاب  الداخلي  والتهديد المتزايد  من قبل المجموعات السنية الأصولية ومن بينها جبهة النصرة وبشكل أخص الدولة الاسلامية – وجه حزب الله تأثيره  السياسي  وموارده  التنظيمية  نحو القطاع  الداخلى  من خلال مواصلة  تدخله في الحرب السورية .  لذلك فمن المفترض  انه على المدى القريب  فإن الجمع بين الضغط  الداخلي  وبين التدخل  على الجبهة الخارجية  سيزيد  ويسهم  في تقليل احتمال دخول  حزب الله  فى مواجهة مع اسرائيل .  وبالطبع فان هذا الافتراض  لا يعني   استبعاد امكانية  نشوب الحرب  رغم ذلك كله   سواءً نتيجة الخطأ في  تقدير الموقف  – من قبل إسرائيل أو حزب الله –  او رداً على تطور  درامي  على الجبهة الايرانية الاسرائيلية .
وعلى المدى البعيد  من غير الواضح  بالمرة فيما اذا كان تدخل  حزب الله الحالي  في سوريا سيساعد  في تنفيذ عمليات  المنظمة المستقبلية  في الحرب  المحتملة مع اسرائيل   او يضر به. حزب الله متدخل في سوريا  بثلاثة آلاف آو اربعة الاف مقاتل  يشاركون في الاعمال العدائية، وهو عدد مرتفع  وفق كل الآراء بالنسبة لتنظيم  شعبي.  ووفق التقديرات  فإن خمسة آلاف مقاتل بشكل دائم  بالاضافة إلى 15 – 20 ألف ضابط  بشكل جزئي  أو من الاحتياط،  بالإضافة إلى تكبد المنظمة خسائر  كبيرة  في الحرب السورية  بما في ذلك فقدان  قادة عسكريين كبار  وفقدان حوالي ألف مقاتل على الأقل،  ورغم ذلك فالجزء الأكبر  من البنية العسكرية  ومن مخزون الأدوات القتالية  التابعة للمنظمة، والتي قد تستخدم في الحرب القادمة مع اسرائيل، بقيت دون تضرر.

ومن الجدير بالذكر أن حزب الله  واصل الغستثمار  في توسيع خدماته   وتطوير  السلاح الذي يملكه  منذ بدء الحرب في سوريا، من خلال محاولة  إبعاد  مقاتليه  الأكثر تدرباً وخبرة عن ساحة القتال في سوريا  لصالح المواجهة مع اسرائيل   مثل الوحدات القتالية المضادة الدبابات، وعلاوة على ذلك  فإن ساحة الأحداث  في سوريا  تعتبر فرصة  مهمة للمنظمة  وخصوصاً المجندين الجدد  الذين سيحصلون على  دروس قيمة  سواءً  على مستوى القتال التقليدي أو على مستوى إدارة  العمليات الهجومية  المعقدة  في منطقة غير معروفة لهم .
 نظرة مستقبلية : استنتاجات الجرف الصامد
 رغم ان تورط حزب الله الحالي  لا يشجعه على التطلع الى مواجهة شاملة مع اسرائيل إلا أن هذا لا يعني ان المنظمة الشيعية اللبنانية  لم تراقب عن كثب  وباهتمام شديد  جولة أعمال العنف  الأخيرة  بين حماس وإسرائيل  وأنها لم  تستخلص العبر منها. تعقب حزب الله عن قرب  ـثر تطورات عملية الجرف الصامد وـبدى تضامنه مع قطاع غزة في مناسبات عدة  عبر إدانة الخطوات الاسرائيلية  بل واكثر من ذلك   اعلن نيته  دعم المقاومة  ومع هذا  فعلى ضوء وضعه الحالي  المعقد في سوريا  ولبنان  لم ينوي حزب الله ترجمة أقواله  إلى افعال .
المهم في ذلك  أنه من المنطقى الافتراض ان حزب الله   راقب عن كثب  أيضاً الخطوات التي قادت الى  المواجهة  العنيفة  بين حماس واسرائيل  . فحزب الله تنظيم محكم  جداً  يبدي إهتماماً حقيقاً  بدراسة تصرفات العدو وفهمه بشكل شامل. من أجل هذا  فإن حزب الله يراقب عن قرب  في كل الأوقات  سلوك إسرائيل  في ميدان المعركة أو  على الصعيد السياسي .
في الفترة الأخيرة وفى أعقاب عملية الجرف الصامد  خلص حزب الله  على ما يبدو  إلى عدة استنتاجات  مهمة  فيما يخص قدرات اسرائيل  القتالية  وعزيمتها .
أولاً: عملية الجرف الصامد  أكدت الدرس الذي  استخلصه حزب الله في  عام 2006  وهو  فعالية الإعتماد على الصواريخ قصيرة المدى  وهي سهلة في التخزين  والتنقل بها  واستخدامها، والممكن إطلاقها من مناطق مأهولة  إلى جانب قدرتها  على تخويف السكان المدنيين  وتشويش الحياة اليومية  في اسرائيل.  وزيادة على ذلك   فإن اطلاق القذائف الصاروخية بكثافة على البلدات  القريبة  من خط الحدود  قد تؤدي  إلى هجرة جماعية يمكن تقديمها على أنها إنجاز عسكري  تماماً مثلما اعتادت حماس على فعله بعد عملية الجرف الصامد .باإضافة إلى ان إطلاق نار من هذا القبيل  يستخدم كاداة في الحرب النفسية  وورقة ضغط على الحكومة الإسرائيلية  مصدرها الجبهة المدنية الداخلية.  ومع هذا  ففي حالة حزب الله  يمكن إضافة  الصواريخ قصيرة المدى إلى  تحدي الصواريخ طويلة المدى والتي تشكل سلاحاً متطوراً ودقيقاً أكثر بكثير  للإستخدام لمسافات متوسطة  وطويلة  بالإضافة إلى عرقلة الحياة اليومية في اسرائيل والإضرار بالمعنويات وتشكيل أوراق ضغط  سياسية، كشفت عملية الجرف الصامد نقاطاً مناسبة  لتكون أهدافاً للهجوم  من بينها مطار بن جوريون الدولى.  ومن المعقول الإفتراض أن  حزب الله سيعتمد في حربه مستقبلية  على سلاح متطور ودقيق بمستوى كبير جداً بهدف الاضرار بالمطار  المدني  الرئيسي  في اسرائيل  .  هذا التفسير ياتي على نفس مستوى  تصريحات  نصر الله  بعد حرب لبنان الثانية  التي المح فيها  الى مصلحة المنظمة في المساس  بالبنى الحيوية  لإسرائيل  وخصوصاً  محطات  الطاقة  ومواقع الغاز والمطارات والموانئ .
في المقابل  يرى حزب الله  في رد فعل الجمهور الإسرائيلي  على محاولات حماس   الفاشلة   للقيام بعمليات داخل إسرائيل عن طريق شبكة الأنفاق تأكيداً على أن فاعلية منظومة تحت الأرض أمر ذو أثر كبير ،وتركيزه مؤخراً على تدريب وحدات لتنفيذ عمليات داخل إسرائيل.  حزب الله لن يستطيع ان يحتل مناطق في اسرائيل وإنما عدة
عمليات إختراق موجهة   إلى اسرائيل  عبر أنفاق  تحت الأرض  ستكون بمثابة  آداة فعالة  أكثر  على مستوى الحرب النفسية .
ثانياً: على ما يبدو  راقب حزب الله عن كثب إصرار اسرائيل  في الحرب على غزة وتوصل إلى استنتاج  أن الدولة مترددة اليوم  أكثر من أي وقت مضى  للقيام بعمليات برية  التي تؤدي إلى الكثير من الاصابات.  بل ان البعض يزعم  ان انعدام الارادة  لدى اسرائيل   فى بدء حرب  برية  واسعة النطاق   في قطاع غزة رغم إطلاق الصواريخ  المتواصل    قد يشير   موقف متحفظ  تجاه الحرب القادمة  مع حزب الله  أكثر بكثير مما تعكسه تصريحاتها المعلنة .
ثالثاً: عملية الجرف الصامد  أكدت درساً آخر  أصله هو حرب لبنان الثانية : وهو حقيقة أنه بعد وقف أطلاق النار  فإن حزب الله سيكون قادراً  على إظهار عدم خسارته  في معركة على انه انتصار  بغض النظر عن الخسائر  التي سيكبدها عدم الخسارة هذا   للمنظومة العسكرية   او دولة لبنان نفسها.  من الواضح ان أياً من هذه الإستنتاجات  ليس جديد  أو مفاجئ إطلاقا  غير انه من المحتمل أن بامكانها أن تسهم في تطوير استراتيجية  حزب الله  ونهجه  حيال المواجهة  العنيفة  القادمة مع اسرائيل .  في ذات الوقت  الإعتماد المبالغ به على المقارنة بين قطاع غزة وبين لبنان  قد  تبدو خطيرة بالنسبة لحزب الله .
لذلك وعلى ضوء الختلافات  الكبيرة  الموجودة  في  مخزون سلاح حماس  وبين سلاح حزب الله – سواء على مستوى الكيف أو الكم –   وبالأخذ فى الاعتبار القذائف والصواريخ  الأكثر  دقة  وإحكاما   لدى حزب الله،  قد تقرر إسرائيل  الرد بشكل  شامل اكثر بكثير  في المرحلة الأولى من القتال  في المواجهة المحتملة مع المنظمة. قرار اسرائيلي من هذا القبيل  قد يؤدي إلى حرب  شاملة  تحصد ضحايا  أكثر بكثير  في أوساط المدنيين ( من كلا الطرفين )، وتتسبب فى أضرار أكثر  بكثير على البنى التحتية. وبطريقة مشابهة  فإن إسرائيل لن تسلم بالتأكيد بإغلاق مجالها الجوي  أو البحري  ومن المعقول الإفتراض  أنها سترد  بقسوة شديدة  وبأي ثمن  تقريباً لكي تكسر الإغلاق  .
تفسير خاطئ من قبل حزب الله  لسياسة الرد المحدود  نسبياً  التي اتخذته اسرائيل  اثناء عملية الجرف الصامد قد يبدو  خطيراً جداً  في حق المنظمة في حال قادها هذا التفسير إلى إعتقاد خاطئ آخر يحصد منها ومن لبنان ثمنا باهظاً  يشبه ما حدث في العام 2006، وانما هذه المرة  فإن النتائج من شانها  أن تكون مختلفة  وأكثر دموية  لكلا الطرفين.
نظرة مستقبلية: تطورات علاقات اسرائيل – حزب الله
منذ انتهاء حرب لبنان الثانية المفاجئ جداً تم الحفاظ بشكل عام على  الهدوء على طول” الخط الازرق “. الانطباع المشترك لدى الطرفين  والذي يعني أن  مواجهة عنيفة اخرى ستكون شاملة  وكثيرة الأضرار  أدى إلى أن يسود الهدوء  الحذر والنابع  أساساً   من الردع المتبادل.  بهذا الشأن فإن الحرب الاهلية التي نشبت في سوريا   عززت    الوضع القائم أكثر  ودفعت حزب الله الى التركيز على “جبهته الشرقية” ”  .
وبالنظر الى المستقبل وعلى افتراض أن لا تحدث  تطورات غير متوقعة   في الحرب الأهلية السورية، فمن المتوقع ان يواصل حزب الله تدخله  في القتال  في هذا الميدان  لكي يضمن بقاء نظام الأسد. وفي المقابل ستواصل  المنظمة انفاق  موارد إضافية  لكي تؤسس دفاعها  عن ممتلكاتها  وبناها التحتية  وعن قراها  في وجه المنظمات  التكفيرية  داخل لبنان .  ويمكن الإفتراض أن  المنظمة ستتطلع الى  الإمتناع عن فتح جبهة قتال جديدة مع إسرائيل، ولكنها ستحافظ على اليقظة فى بكل ما يخص خطط اسرائيل  وستواصل مراقبة  خطواتها وتصرفاتها. بهذا الشأن يبدو أن حزب الله  تابع عن كثب جولة الأعمال العدائية  الأخيرة بين إسرائيل وحماس وتطلعت إلى استخلاص العبر الممكنة منها .
من خلال رؤية شاملة وعلى ضوء التحديات الخاصة التي تمثلها  المنطقة الشمالية  يمكن القول أنه ورغم امكانية  الحصول على  رؤى  معينة  من حرب جيش الدفاع الإسرائيلى في عملية الجرف الصامد فإن استراتيجية اسرائيل تجاه قطاع غزة  لا يمكن أن تشكل نموذجاً  دقيقاً  لعمليات عسكرية  مستقبلية في مواجهة حزب الله في لبنان .

رابط التقرير