ناحوم شيله

في 26 مارس بدأت عملية “عاصفة الحزم”. السعوديين وحلفائهم من الخليج هاجمهوا أهداف المتمردين الحوثيين جواً في اليمن، وفجأة تحتل العملية المرتبة الأول في جدول الأعمال العالمي والشرق أوسطي.

وسائل إعلامي كثيرة، من وقت كبير لم تهتم بهذه الدولة العظمى، وتنشر في تلك الأيام أخبار في كثير من الأحيان حول خارطة السيطرة لمختلف عناصر السلطة في اليمن – الحوثيين ومؤيدي الرئيس وتنظيم القاعدة. لكن يمكن أن نفترض أنه خلال أيام ستتغير هذه الخارطة لأكثر من مرة. وعلى أي حال، كي نحاول فهم الذي يحدث في اليمن يجب فهم أنه لا يوجد هنا فقط “شيعة في مواجهة السنة” أو “مؤيدي إيران في مواجهة مؤيدي السعودية”، بل في الصورة الكثير من العناصر تشمل كيانات كثيرة.

إتحاد زائف

اليمن اليوم هي دولة تكونت من إتحاد دولتين. وفي عام 1990 تم الإعلان عن إتحاد بين شمال اليمن والتي كانت تحت سيطرة إئتلاف عسكري وقبلي وديني برئاسة الرئيس “على عبد الله صالح وبذلك اجتمع حول المائدة كل من المؤتمر الشعبى العام ورؤساء الإتحادات القبلية الكبرى حشد وبكيل ونخبة من ضباط الجيش مع جنوب اليمن والذى كان عبارة عن جمهورية ماركسية تابعة للإتحاد السوفيتى . وفى إتفاقات الوحدة تم الإعلان عن الوحدة الكاملة لليمن لكن فى الحقيقة كان هذا اتحاداً زائفاً لا أكثر، حيث أنه شمل فقط توزيع الأدوار بين النخبة الجنوبية والشمالية دون أى محاولة لإقامة أمة يمنية موحدة.

في الواقع القائم والذي عملت فيه النخب الجنوبية والشمالية على تحييد كل منهما للآخر، تحولت الدولة الموحدة إلى دولة مكبلة. بالإضافة إلى الفقر الذي إنتشر فيها وعزلتها عن العالم العربي، بسبب دعمها لغزو “صدام حسين” للكويت. في عام 1994 وعلى خلفية إعلان النخب الجنوبية الإنسحاب من الإتحاد وإقامة دولة جنوبية يمنية جديدة إندلعت في اليمن حرب أهلية أنتصرت فيها قوات الرئيس صالح. الرئيس الذي كان موجودة قبل الإتحاد وأظهر قدرة كبيرة على المناورة بين عناصر القوة في الدولة وإستطاع تعبئة الطوائف الإسلامية وخصوصاً مؤيدي حركة “الإصلاح” – حزب إسلامي ذو قاعدة قبلية عريضة، وذو دعم في الوسط السني وأيضا في الطائفة الزيدية.

عمل الرئيس صالح على تأسيس حكمه وحكم حزبه في السنوات التي عقبت الحرب الأهلية – المؤتمر الشعبي العام من خلال دفع كل عناصر القوة الذين وقفوا في طريقه إلى هامش الساحة السياسية، ومن بينهم رجال حركة “الإصلاح”. وعين “عبد ربه منصور هادي” نائباً له – وهو رجل عسكري سني، وقد كان جنرال في الجيش الجنوبي حتى إنشقاقه إلى الشمال عام 1986. وحتى نهاية التسعينات عمل كلاً من صالح وهادي معاً وفي هذا العقد كان يبدو أن اليمن تخطو نحو التخلص من الفقر والفوضى، وكان هذا بفضل الحفاظ على علاقات جيدة مع جيرانها والولايات المتحدة، وبفضل عائدات النفط التي بدأت تتدفق أكثر وأكثر إلى خزانة الدولة. وفي تلك الفترة بدأ أيضا إنخفاض مستوى العنف في البلاد.

 

 

سيطرة الحوثيين

بدأت اليمن منذ نهاية عام 2000 في الإنحدار إلى فوضى جديدة في الدولة. وزاد تنظيم القاعدة من وجوده من خلال إستغلاله لإمكانياته بشكل كامل فتضاريس المنطقة تجعل من الصعب الوصول إلى مناطق واسعة في الدولة، وحقيقة أن أصل عائلة بن لادن كانت من اليمن، والفقر الشديد الذي يعاني منه أغلب مواطني البلد، وحقيقة أن كل فرد في اليمن تقريباً يمتلك سلاح، وتدفق اللاجئين بشكل كبير إلى اليمن من دول القرن الأفريقي والتوجهات المتطرفة التي استشرت داخل الأحزاب الإسلامية، وخصوصاً في حزب “الإصلاح”. والأعمال الإرهابية التي تم تنفيذها في اليمن وهي تحت سيطرة تنظيم القاعدة، أحياناً كانت ضد أهداف يمنية وأحياناً ضد أهداف أجنبية، وأدت إلى إنعدام شرعية نظام صالح وجلبت معها تدخل عسكري أجنبي في اليمن.

وفي المقابل بدأت الحركة الحوثية دون أن يشعر بها أحد فى العمل فى منطقة صعدة القريبة من الحدود مع السعودية. وهذه الحركة نشأت في بداية التسعينيات تحت اسم “الشباب المؤمن” كحركة إجتماعية ثقافية والتي كان هدفها تقوية الحركات السلفية والتوجهات الوهابية في صعدة وما حولها. وقد عملت على تحسين الوضع الإقتصادى للمواطنيين الزيديين في تلك المنطقة. وكان زعيم الحركة “حسين بدر الدين الحوثي”، رجل دين ذو كاريزما وعلى الرغم من أنه كان زيدي وليس شيعي من الإثنى عشرية، كان مقبول جداً لإيران حيث جلس فيها لفترة طويلة، وكانت تربطه علاقات وثيقة مع كبار رجال النظام الإيراني – وعلى رأسهم الزعيم الأعلى “على خمائني”.

وفي بداية العِقد الماضي كانت حركة الحوثين لاتزال هادئة، ولم تُقلق راحة الحكام في اليمن أو العناصر الخارجية. وقد فهم الرئيس صالح بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 أن تنظيم القاعدة وتيارات الأصوليين السُنة يشكلون خطراً على نظامه، فحاول التقرب من “الشباب المؤمن” و”حسين بدر الدين الحوثي”. وفي البداية تصالح حسين ومؤيديه ولكن بعد إجتياح الولايات المتحدة للعراق في عام 2003 غيروا جلدهم وقالوا أن صالح ونظامه عملاء الأمريكان. ومن هنا بدأت الأوضاع تتدهور. وبين عامى 2004 – 2009 إندلعت أكثر من ستة مواجهات مسلحة بين القوات الموالية لعائلة الحوثي وبين جيش صالح، فقُتل “حسين بدر الدين الحوثي” في أحد تلك المواجهات في عام 2004 وتولى أخوه “عبد الملك” زعامة الحركة.

“الربيع العربي” وطائر الرمل: وعودة صالح

خلال العقد الماضي إنقسمت اليمن سريعاً وسلطة الدولة أصبحت بلا اي تأثير على الإطلاق، ليس فقط أمام الحوثيين بل أيضاً في مواجهة تنظيم القاعدة وبالطبع في مواجهة القبائل الكبيرة فقد تصرف كل منهم حسب ما يترائى له. أحداث “الربيع العربي” التي بدأت في عام 2010 في تونس وامتدت كالنار فى الهشيم في كل أنحاء العالم العربي، وهكذا تدهور الوضع في اليمن. وفي 3 يونيو عام 2011 أصيب الرئيس صالح إصابة خطيرة نتيجة نيران المدفعية التي تم توجيهها إلى القصر الرئاسي. وتم نقله على وجه السرعة إلى السعودية وعاد لبلاده بعد عدة أشهر، وبسبب أيضاً وضعه الصحي والضغط الشديد عليه، استقال يوم 25 فبراير، 2012. وخلفه الرئيس الحالي، عبد ربه منصور هادي.

على عكس تبادل الأنظمة الحاكمة الأخرى في العالم العربي التى مات فيها الحاكم الأسبق توفى أو ألقي به في السجن أو هرب من الدولة أو طُرد منها لم يكن الأمر كذلك مع صالح. وعلى الرغم من أنه إستقال وعلى الرغم من أنه استقر عدة أشهر في المملكة العربية السعودية وفي الولايات المتحدة الأمريكية عاد في النهاية إلى اليمن. بل واستمر في عمله السياسى في منصب رئيس حزب “المؤتمر الشعبي العام” ويواصل السيطرة على وحدات كثيرة في الجيش، عن طريق أبناء عائلته من الدرجة الأولى والثانية. وفي هذه الفترة صالح الذي يقود تقريبا منذ 40 سنة مثل “طائر الرمل” ويعرف دائماً كيف يثبت أقدامه، تودد للحوثيين، على الرغم من أحداث العقد الماضي وأدار ظهره لحلفائه القدامى وعلى رأسهم حزب “الإصلاح” ورعاته السعوديين.

صداقة صالح مع الحوثيين تبدو السبب الأساسي لإنتصارهم وإنتشارهم الإقليمي. فقد تحدث كثيراً عن المساعدات المالية والسلاح والتي تتلقاها الحوثيين من إيران، ولكن على الرغم من وجود مساعدة حقيقية تلقوها لأكثر من عشر سنوات لم يتمكنوا من الوصول إلى الإنجازات الحالية لولا صداقة صالح  – فقد منحتهم صداقته دعم الوحدات الخاصة في الجيش اليمني، والتي كانت خاضعة لأبناء عائلة صالح وبذلك أعطت لهم إمكانية الوصول إلى الأسلحة الثقيلة من دبابات وطائرات مقاتلة وصواريخ وقذائف.

التحالف الغريب بين الحوثيين وبين صالح تجسد الواقع اليمني – الذى تقوم فيه التحالفات وتحل من خلال المصالح الضيقة للقبيلة، أو الطائفة أو الجماعة وليس من خلال مصلحة سياسية. وهنا يجب ذكر أن صالح نفسه جاء من عشيرة زيدية تتبع لقبيلة سنحان – وهي أحدى القبائل الرئيسية في إتحاد القبائل حاشد وعلى ضوء هذا ربما يكون من السهل فهم هذا “المنعطف” الذي قام به صالح – من الحرب ضد الحوثيين إلى دعمهم. فصالح فهم أن لغة الحوار المسيطرة اليوم في اليمن دينية طائفية ولذلك من السهل أن يضع نفسه في المعسكر الزيدي.

المواطنون سيدفعون الثمن

في دولة معقدة ومركبة مثل اليمن والتي بها حوالي 26 مليون نسمة فقراء ومتمردين وتقريبا كل مواطن يمتلك سلاح، فأي شئ ممكن وفي كل هذا يمكننا أن نشير إلى بعض الأحداث الممكنة.

السيناريو الأول وهو تدخل عسكري بري مؤثر للسعودية وحلفائها ضد الحوثيين. وفي هذه الحالة هناك إحتمالية أن القوات البرية التي تجتاح ستتقدم سريعاً على الحدود الساحلية بإتجاه ميناء الحديدة، من خلال الرغبة في الوصول إلى عدن، للمساعدة في الحفاظ على وجود نظام الرئيس “عبد ربه منصور هادي” ومنع سيطرة الحوثيين الإيرانيين على مضيق باب المندب. فالإجتياح من منطقة الحدود السعودية اليمنية متجهة إلى صعدة محتمل ولكنه سيكون أصعب ما يكون، بسبب تضاريس المنطقة الجبلية والتي لا تسمح بالقتال المتحرك الفعال، وبالتأكيد لاتسمح بالقوات المدرعة. فقد تحفظت السعودية على مر السنين من العمل المباشر في اليمن، ولكن الآن ومع وجود تلك الظروف الإقليمية والدولية وبسبب غياب الوجود الأمريكي لمواجهة إيران، يبدو أن السعوديين “أداروا الدفة” وأنتقلوا إلى مرحلة الهجوم.

السيناريو الثاني، وفيه سينجح الحوثيين، وبالطبع بمساعدة وحدات الجيش التابعة لهم أو لأبناء عائلة صالح فى تأسيس سيطرة حقيقية على أجزاء كبيرة من الدولة بما فيها مدينة عدن. وفي وضع كهذا تكون العناصر المميزة التى ستقض مضاجعهم هى الخلايا الإرهابية لتنظيم القاعدة وتنظيم “الدولة الإسلامية”، والتي على أتم إستعداد لتنفيذ أعمال عنف في كل مكان في اليمن وفي كل لحظة. وفي حالة كهذه لن نتفاجئ بأن تنظيم القاعدة سيتلقى دعماً سعودياً ومن دول الخليج وعلى الرغم من أنه يدعو بوضوح لإسقاط الملكيات في دول الخليج ويرى في سيطرة الخليج كفر فى كل شيئ.

سيناريو آخر، وهو العودة لصيغة “الدولتين” في اليمن، وفقاً الخطوط الفاصلة السنة-الزيديين، بمعنى: تكوين دولة زيدية في شمال غرب الدولة، والتي ستُحكم بواسطة الحوثيين وستكون تابعة لإيران، وفي المقابل – تأسيس دولة سنية في جنوب شرق الدولة، وإذا حدث هذا سيكون من الصعب جداً على السلطات فرض سلطتها على قوات القاعدة و”الدولة الإسلامية”. وعلى اي حال ففى السيناريوهات الثلاث لا يوجد شك أنه سيكون هناك ثمن دموي تدفعه الأطراف المتحاربة والمدنيين غير الضالعين فى الأمر.