18-4-2015

بقلم: تومر فريسكو

انقضى شهر منذ انعقاد انتخابات الكنيست، ويبدو أنه من الممكن أن نعلن عن أسلوب أدبي جديد انتشر بين الكتّاب عن إسرائيل في الصحف العالمية: «الرثاء». من الصعوبة بمكان أن نجد وسيلة إعلامية، على الأقل، ليس في الدول الغربية الديموقراطية، تمنح لكاتب الحرية في أن يوضح، من يتصرف بعاطفية ومن يتصرف بشكل توجيهي فاتر، فمع اختفاء رؤية الدولتين لن تتمكن إسرائيل من أن تستمر في أن تبقى سواء يهودية أو حتى ديموقراطية.

هكذا يشرح كل من “چونثان فريدلاند” محرر كبير وصاحب عامود صحفي في “الجارديان”، و”داڤيد بلير” في “تليجراف”، و”بتينا ماركس” في موقع  “دويتشه ڤيله”، و”ميخال كوهين” في “بوسطون جلوب”، و”دانا ميلبنك” في “واشنطن بوست”، وبالطبع “توماس فريدمان” من “النيويورك تايمز”، بلغة بسيطة للغاية لِماذا سيتيح الواقع الديموغرافي بين الأردن والبحر خيارين، خيارين لا ثالث لهما؟: إما الاستبداد اليهودي، أو الديموقراطية ثنائية القومية. حتى لفظة “تمييز عنصري” زاد استخدامها بكثرة داخل السياق الإسرائيلي، فقد نشرت مجلة Vox مقالاً مطوّلاً تحت عنوان يلخص القضية بلغة واضحة: “الديموقراطية في الدولة اليهودية مفقودة”.

فلننح مسألة احتمالية تحقق هذه السيناريوهات المرعبة جانباً، ولنركز على الحاضر. فالمفهوم الذي اكتسب له بالفعل موطيء قدم في تلك الأيام، الذي يطرح يهودية إسرائيل وديموقراطيتها وجهاً لوجه، هو السبب الحقيقي في القلق. إن الوضع الراهن، الذي تنعي فيه أصوات بارزة الديموقراطية الإسرائيلية وترى في اليهودية طابع عرقي باهت في أفضل الأحوال، ورخصة للتمييز العنصري في أسوأ الأحوال، كما أنه يبرز الأزمة التي اجتاحتنا، أزمة تشوّه الثقافة اليهودية البشعة في بداية القرن الـ21.

عندما نرى أكثر الدول الصديقة لنا، تلك الدول التي كثيراً ما نعتز بوجود “قيم مشتركة” نتقاسمها معها، قد بدأت تعتبر يهودية إسرائيل نقيضاً لديموقراطيتها، فيبدو أننا قد أوشكنا أكثر من أي وقت سابق على وضع التراث اليهودي في الموقف المشين الذى توجد الشيوعية، والذي في هذا الوقت يتواجد فيه الإسلام السلفي أيضاً.  نحن نشهد جرّ لليهودية إلى مسار الزفت والريش وهو ما سيلصق بها أكثر من أي تحقير معادٍ للسامية في الماضي – ببساطة لأن هذه المرة لن يدور الحديث عن افتراءات. عندما مزّق “حاييم هرتسوج” في نوفمبر 1975 ورقة قرار الأمم المتحدة رقم 3379، أراد الاحتجاج على مقولة أن الصهيونية عنصرية. وبعدها بـ40 عام، وبعد الانتخابات التي هُزِم فيها ابنه، يزداد الموقف القائل بأن اليهودية هى الإستبداد ترسخاً في الذهن في العالم الغربي.

وربما الأكثر مأساوية من ذلك كله، أن التمييز بين طابع الدولة اليهودي وديموقراطيتها يحتد ويتسع، وهذا ليس في كل أرجاء العالم فحسب، بل أيضا في إسرائيل نفسها. تكشف المعطيات التي توصل إليها المعهد الإسرائيلي للديموقراطية، أنه في الخمس سنوات الأخيرة قد طرأ انخفاض متناغم في نسبة المواطنين اليهود الذين يثّمِنون ويقدِّرون الدمج بين الديموقراطية واليهودية.

فإن كان في 2010 قد أكدّ 48.1 من المواطنين على أهمية هذين العاملين بالنسبة لهم بنفس القدر، ففي 2012 انخفضت نسبة هؤلاء إلى 41.9 %، وفي 2014، قد بلغت 24.5%. وعلى الجانب الآخر، نجد أن نسبة الإسرائيليين الذين يرون أن المعيار اليهودي له قدر كبير من الأهمية بالنسبة لهم، قد زادت نسبتهم أكثر بكثير لتبلغ  38.9 %، في مقابل 33.5 % من المواطنين الإسرائيليين اليهود الذين يفضلون الديموقراطية.

القصة هنا ليست بأن اليهودية بالنسبة لأغلبية كبيرة أهم من الديموقراطية، وهذه في حد ذاتها تمثل واقع مثير للقلق، بل إن مسألة الدمج بينهما في نظر أغلب مواطني إسرائيلي وشيكة على أن تصبح مستحيلة. تكمن المأساة إذن في أنه كما في أرجاء العالم الغربي، أيضاً في إسرائيل هناك الكثير والكثير من المواطنين الذين يرون في اليهودية وفي الديموقراطية هويتين متناقضين.

الإخفاق هنا هو في المقام الأول هي إخفاق ثقافي؛ فشل المجتمع الإسرائيلي في خلق يهودية، تكون في جوهرها ديموقراطية، لا تتنافى مع الديموقراطية – بل على العكس، تعزّزها. في هذا الموضع تتشكل صورة اليهودية في الذهن على أنها هوية عرقية عنيفة، كعقيدة إسبارطية يعتقد أصحابها بأنهم أسياد العالم، وكيان رجعي ومتعصب، فبدلاً من أن تدير حوار مع الحداثة تفضّل إسرائيل أن تنَّفض عن نفسها خصائص ليبرالية قد خبأتها بالفعل، بل وخصائص مماثلة حملتها في طياتها منذ زمن بعيد.

وهذا الإخفاق الثقافي سيصبح كارثة تاريخية إن تحولت إسرائيل في المستقبل إلى دولة “يهودية” فقط. في ظل حالة مماثلة ستعاني الديموقراطية حتماً، وسيعاني معها السكان الذين يستقرون بين الأردن والبحر. وستحل فترة مروعة، لكن كأي استبداد في الماضي، هذا الاستبداد أيضاً سيسقط. وحتى يحدث هذا ستنكشف المأساة الحقيقية، سيتضح أن اليهودية تحولت أمام العالم أجمع من ديانة يلاحقها التمييز العنصري والاحتلال، إلى العنف والقمع، والاستبداد والاستعباد. لقد نجت اليهودية من كوارث عدة. ولكنها لن تنجو من هذه الكارثة.