23-4-2015

بقلم: موشيه بن عاطار

تغلغلت، في الفترة الراهنة، ذاكرة المحرقة والصراع ضد من ينكر حدوثها، داخل الوعي العام الإسرائيلي. اليوم، بحلول يوم ذكرى المحرقة وبعد مرور 70 عاماً بالتمام والكمال، على انتهاء الحرب العالمية الثانية، ما زال الجيل الثالث في ألمانيا مستمراً في تحمل الذنب، ويسعى الشباب الألماني للبحث عن طريقة للتخفيف من شعورهم بالخزي، الذي أنزلته المحرقة على رأس أجيال من الألمان الذين لم يرتكبون أي خطأ.

أتحدث كثيراً مع أصدقائي من أبناء الجيل الثاني من الناجين من المحرقة. أنتمي إلى أسرة لم تمر بهذه الكارثة المروعة وأنا ممتن لذلك، لأنه من الصعب الإحساس بشعور الأشخاص الذين أتبادل معهم أطراف الحديث، والذين نقل إليهم أبائهم قصصهم الشخصية أيضا وقت صمتهم، على مر الأعوام. لكن انشغالي بالأمر طوال سنوات والأحاديث الحميمية العديدة التي أجريتها مع أبناء جيلي الذين نجا أبائهم من المحرقة، رسّخ شعوري لدى بأنه قد حان الوقت لتغيير الإتجاه.

بعد مرور 70 عاماً على المحرقة، حان الوقت للكف عن المطالبة باتهام الجيل الثاني والثالث في ألمانيا. وإلقاء اللوم على كافة الأجيال حتى نهايتها، إنه أمر مناف للطبيعة وللأخلاق الإنسانية. إلى متى يمكن للألمان من أبناء الجيل الثاني والثالث للحرب، أن يشعروا بالذنب؟ هم وأباءهم- الذين كانوا أطفال صغاراً إبان الحرب، أو وُلدوا بعدها- لا يمتون بصلة للنازية. إنهم ألمان يرغبون في أن يكونوا فخورين بتراثهم ودولتهم. سيثور أي شخص يطلبون منه أن يشعر بالذنب على أخطاء أجداده. يعترف الجيل الجديد في ألمانيا: لقد أخطأ آباؤنا حقاً، وقد دفعنا أثماناً باهظة بسبب ذلك، لكننا نريد العودة للوضع الطبيعي. إلى متى يمكننا أن نتحمل أخطاء تلك السحابة السوداء؟

من الجانب الأخلاقي، المواطن الألماني العادي  ليس بأقل منا. وبالطبع نحن لسنا أفضل من الألماني العادي الذي ولد بعد الحرب، لكونه إنساناً مستقيماً وغير عنصري. لقد حان الوقت الذي يتحرر فيه الألمان من إثم آبائهم وأن يتخلصوا من الظلم الأخلاقي الكبير، الذي أُلقي عليهم دون ذنب. ما زال العديد من الإسرائيليين، ليس فقط الناجين من المحرقة، وليس فقط أحفادهم — ينظرون إلى الألمان كأنهم مسخ ويقاطعون المنتجات الألمانية.

الآن، لست مستعداً لنسيان المحرقة ولا التقليل من قدرها. ينبغي فضح من ينكرون المحرقة. وينبغي كذلك تذكر وفضح جميع من تعاونوا مع النازية، الذين لعبوا دورا في المحرقة، في أنحاء أوروبا. فضلاً عن ذلك، لست مستعداً – ولا أدرى إن كان مسموحاً لي أخلاقياً – للصفح عن ألمانيا بشكل عام. حكم “هتلر” كحكم “العماليق”. لكن الألماني الفرد، الذي يعيش الآن ولم يلعب دوراً في النازية، جدير بالتطبيع.

النقطة الرئيسية لزعمي هي أن: ذكرى المحرقة هي مشكلة الألمان – وليست مشلكتنا. وعليهم أن يعيشوا مع ذنبهم وينبغي أن تكون مسؤوليتهم عن المحرقة مواجهة خاصة بهم. حينما نقوم بمهاجمة الألمان الذين نشأوا وولدوا بعد النازية -بسبب مسؤوليتهم عن المحرقة – نحولهم إلى ضحايا أخطاء آبائهم، وكما ذكرنا مسبقاً، أن ذلك ليس إنسانياً؛ ولا يستحق المرء أن يكون ضحية بهذا الشكل. ولا يستطيع كثيرون العيش كضحايا بهذا الشكل. أحد الطرق للحماية من التعرض لهذا الوضع هو إنكار المحرقة. إذن، ينبغي أن نترك الألمان يواجهون تاريخهم. حينما نكف عن إلقاء مسؤولية المحرقة على الألمان الذين ولدوا بعد الحرب، فلن يكون هناك فائدة لأعمال ناكري المحرقة.

لكي نفهم حجم الأزمة الألمانية في هذا الشأن يمكننا أن نرى، مثلاُ، الصراع المشتعل، القاسي، الذي يدور في ألمانيا حول بناء النصب التذكاري لذكرى المحرقة في برلين. يحتل النصب مركزا بارزاً في وسط المدينة. حينما زرتها السنة الماضية، ظل وجوده محفوراً في وعيي. عارض ألمان كُثر إقامة النصب التذكاري، لأنه يبرز إثم ألمانيا الصارخ، إثم أباءهم.

من الجدير بالذكر، أن اليهود لم يتحدثوا عن الجيل الثاني لدمار الهيكل. هناك أربعة أيام لذكرى دمار الهيكل الأول والثاني، الذي ألحق كوارث كبرى بالشعب اليهودي: صيام جداليا (الثالث من شهر تشري)، وصيام يوم العاشر من تيڤيت، والتاسع من آب، والسابع عشر من تموز؛ لكن في سائر الأيام – وحتى أغلب المواعيد السابقة ليست معروفة لليهود غير المتدينين -نعيش حياة طبيعية. هنا حالة مرضية، فيما يتعلق بالحفاظ على تجارب الجيل الثاني – وحتى الجيل الثالث- للمحرقة. الأزمات الشخصية لأبناء هذين الجيلين قاسية حقاً، لكن كمجتمع، يولي وجهه صوب المستقبل، هل علينا أن نرى أزمة المحرقة جزءً لا ينفصل عن وجودنا؟ نحن متخوفون طوال الوقت ماذا سيحدث حينما لن يكون هناك ناجين من المحرقة. هذا يقلقنا حقاً. ببساطة نحن لا نريد العودة للحياة الطبيعية – أو التطلع إليها، وإن كان المصطلح “نعود للحياة الطبيعية” غير دقيق (لأنه لم تكن هناك “حياة طبيعية” في وجود الشعب اليهود منذ أن سُبي من أرضه). يُعبّر أبناء الجيل الثاني للمحرقة عن أزماتهم بكميات كبيرة من الكتابات الأدبية والكتابات الأخرى، وهم مهتمون بالحفاظ على وجود المحرقة في وعينا. هذا من حقهم، حتى أنه واجب عليهم، لكن وعي المحرقة وذاكرة المحرقة في إسرائيل والشعب اليهود قد تحولت إلى شان مؤسسي، ومهني وتجاري. كثرة متاحف المحرقة – في الولايات المتحدة بالتحديد – والرحلات التجارية إلى بولندا قد تحولت إلى بديل للمواجهة الحقيقية مع الهوية ومع التراث اليهودي للشباب اليهودي، ولا تساهم في بلورة مستقبل طبيعي. أصبحت مشكلة الهوية، خارج إسرائيل، أكثر حدة: العديد من اليهود في أمريكا، حينما سئلوا بماذا يتم التعبير عن يهوديتهم أجابوا: بذاكرة المحرقة.

ينبغي دراسة المحرقة دراسة متعمقة، وفي عملية تعليمية حقيقية. “مسيرة الحياة” ينبغي أن تقام في أرض الأحياء وليس في أرض الأموات. عليها أن تتم في عاصمة إسرائيل التي ترمز إلى الاستمرارية اليهودية بعد المحرقة. وهنا يجب التأكيد على أمر آخر: بدأت إسرائيل في خمسينيات القرن الماضي، مسيرة تطبيع مع ألمانيا. “ألمانيا الأخرى”، هكذا أطلقوا عليها. تزامناً مع هذا، أبرزت محاكمة “أيخمان” كامل وحشية المحرقة على السطح. فقد تم إخفاء المحرقة فور انتهاء الحرب العالمية وفي السنوات الأولي للدولة، لأن أبناء هذا الجيل كانوا مشغولين بالحروب المستعرة وبناء الدولة. وحالياً، في مواجهة ذاكرة المحرقة، نبث للشباب رسائل متناقضة: من جانب- تطبيع كامل في العلاقات مع ألمانيا في كافة مناحي الحياة ومن جانب آخر – الحفاظ على وعي المحرقة التي ارتكبتها ألمانيا. وبناء على ذلك، ماذا نريد من الألمان؟.

سيرافقنا التناقض اليهودي- الألماني لسنوات عدة. ومن المحتمل، في نهاية الأمر، أن تكون العلاقة مع ألمانيا شأن شخصي، بحسب ما زعمت “سابينا شاﭬيد”، ناجية من المحرقة تعيش في بولندا وعادت لزيارة إسرائيل بعد حوالي 50 عاماً. “شعرت بشعور جيد أثناء هذه الزيارة” لقد أخبرتني أن هنا مثل المنزل. أزعجني ذلك الإحساس.

ومؤخراً حكى لي صديقي “آرييه برنيع”، الذي يشغل منصب رئيس منظمة “عيمخا” للناجين من المحرقة، عن ظهوره أمام ناجين في “تل أبيب”. تحدث مع المشاركين، كابن للناجين، عن المحرقة وعن مشاكل الناجين. ومع نهاية الحديث وقف أحد الناجين وطلب طلباً خاصاً: كفانا انشغالاً بالمحرقة، ينبغي تنظيم أمسيات شعرية – الطبيعة الإنسانية تطلب العودة للطبيعة.