دافيد دامان

لقد اعتدنا الثرثرة كثيراً حول الفجوات الثقافية الموجودة بين الشعبين المتجاورين فى ذات الدولة، وهم الحريديم والعلمانيين، فقط لأن القدر أحياناً يستدعى لنا مجموعة من الأحداث التى تعلمنا كم هذه الفجوة عميقة.

خرج مؤخراً مئات الآلاف من الحريديم لتشييع جنازة زعيمين حريديين وهما الحاخام شموئيل وازنر، والحاخام حاييم جرينمين، لم يكن لأى منهما بصمة فى الموسيقى أو الكوميديا أو السينما، كان كلاهما مستقيمين، وعاشا فى تواضع مفرط يصل إلى حد التقشف.

وحصادهما الثقافى يتلخص فى ما يقارب المائة عام من التعمق فى الكتب المقدسة، إلى جانب تصرفات نادرة تتسق مع القيم على المستوى الشخصى. كان الحاخام وازنر أكبر قضاة الحريديم والذى كانت لديه قدرة رائعة على الحكم والقضاء من آلاف كتب الشريعة الخاصة بعظماء إسرائيل على مر الأجيال. والحاخام جرينمين كان شخصية رائعة فى التعليم الدينى أثر بشكل كبير على الكثير من أبناء الجمهور الليتوانى، ولم يتنافسا أبداً على دور الزعامة الذى شغلاه. ولم يتصارعا صراع الأسود فى الإنتخابات التمهيدية العنيفة فى المراكز الحزبية، فى حين أن الجمهور الذى اكتشف وحده هذه المكانة النادرة وتوجهم ، ربما رغماً عنهم فى المكانة العالية.

سيكون من الصعب جداً على أبناء الشعب الحريدى أن يشرحوا لأبناء الشعب العلمانى أولئك الذين خلف الطريق، طبيعة هذا الفضاء الرحب، ولماذا تدافع مئات الآلاف من الحريديم- الذين لا تعرف الغالبية العظمى منهم هذين اليهوديين بشكل شخصى، وربما لم يسبق لهم أن رأوهم مرة عن قرب- ليشيعوهم إلى مثواهم الأخير. ولماذا لديهم شعور جارف بفقدانهم. وسيكون من الصعب أكثر أن يفسروا لماذا يمثل هذين العجوزين وليس غيرهم نموذجاً يحتذى به لدى غالبية الشباب فى هذا الشعب الحريدى.

هناك مثال آخر؛ منذ عدة أشهر هاج الجمهور الحريدى فى العالم كله على خلفية كشف مقطع فيديو قصير يعود إلى أكثر من تسعين عاماً ظهر فيه لثوان معدودة الحاخام كاجين، والذى اشتهر باسمه الأدبى ” المحب للحياة”. وهو ربما يكون الشخصية الأكثر إعجاباً والتى تحظى بأكبر إجماع لدى الحريديم فى المائة عام الأخيرة. وكانت هناك كتابات كثيرة عنه وعن كتبه الدينية والتى تحولت إلى فريضة لابد أن تكون موجودة داخل كل بيت متدين. وتجدر الإشارة إلى أن الرجل هو من قام بدفع الفريضة الدينية  (اللسان السيئ)* اليهودية إلى مرتبه متقدمة عن طريق كتبه وخاصة عن طريق التعامل الشخصى الرائع، وحتى الآن هناك مئات الآلاف ممن يسيرون على دربه.

صورة اليهودى قصير القامة، منحنى الظهر، الذى يرتدى القبعة الرثة، ويسير بضع خطوات خلال ثوان معدودة، نقلت نوعاً من القشعريرة التى لا يمكن السيطرة عليها لدى الآلاف، وأصبحت حواراً يومياً، لكن من الصعب أن نقول بأن هذا الحادث قد أتى بأى ثمار فى الإعلام العام.

هذه الأحداث تزيد فقط من الهوة بين الشعبين الذين يعيشون تحت سقف واحد، ويدفعون الضرائب إلى نفس الخزينة ويجلسون أحياناً فى نفس الحكومة ويحملون جوازات سفر متماثلة، لكن الإختلافات الثقافية والفوارق وعالم المصطلحات، تختلف تماماً عن بعضها البعض كحوار فاشل بين صينى عجوز ومصرى قديم.

المعرفة المنتشرة فى أوساط الجمهور الحريدى هى أن العلمانيين اليوم هم أحفاد متديني الأمس. ووفقاً لهذه المعرفة فإن لدى كل واحد من اثنين من العلمانيين كان هناك جد حاخام أو على الأقل متدين. ومن المنطقى الإفتراض بأن الجيل العلمانى الأول والثانى عرف العالم الحريدى جيداً. الجيل العلمانى الحالى يظهر جهلاً دينياً غير مسبوق. وفى أوساط الجيل الذى يأتى بعده إن لم يحدث هناك شئ متطرف، فإن الوضع ستزداد خطورته.

لم نتحدث بعد عن النفور والكراهية الظاهرة بين اليمين واليسار، وعن تلك المشاعر الصعبة بين الأشكناز والشرقيين، وبين وسط إسرائيل والضواحى.أو بين أولئك الذين يريديون مجتمعاً ديمقراطياً وعلمانياً وأولئك الذين يفضلون مجتمعاً ديمقراطياً لكن بصبغة دينية، وعن المواقف المتطرفة فى المجتمع الإسرائيلى، والتى لم نفكر فيها عندما أعلننا أثناء قيامنا ببناء بيت قومى لليهود فى أرض إسرائيل.

فى مستوى الجهل هذا ستجد دولة إسرائيل نفسها ليس فقط دولة يسكنها خليط ممن ترجع أصولهم إلى دول كثيرة فى الشرق والغرب، ولكن أيضاً دولة غريبة تعيش فيها مجتمعات مركزية إلى جانب بعضها البعض، جميعهم إخوة لكن ليس هناك تواصل بينهم.

الكاتب خبير فى الشئون الحريدية ولديه عامود صحفى فى المجلة الأسبوعية الحريدية “العائلة”.

* اللسان السيء :هى فريضة دينية لدى اليهود تقضى بحفظ حقوق الإنسان وعدم تشويه سمعته أو الإساءة إليه.