عاموس هرئيل
تشكلت في تلك الأيام تدريجياً الشروط التي يمكنها في ظل ظروف معينة أن تتيح نقطة تحول على الساحة الفلسطينية، بعيداً عن إنتباه الجمهور الإسرائيلي. فالإتصالات غير المباشرة بين إسرائيل وحماس بشأن وقف إطلاق النار طويل المدى في قطاع غزة، وهذا ما تتحدث عنه وسائل الإعلام العربية، من الممكن أن تُثمر في النهاية إتفاقاً. هذا التنسيق إذا حدث سيؤثر بشكل واضح على ميزان القوى والعلاقات في مثلث إسرائيل وحماس والسلطة الفلسطينية، وسينعكس أيضاً على العلاقات الوثيقة بين إسرائيل ومصر.
تجرى المفاوضات بشكل متقطع منذ بضعة أشهر. وحسب المنشورات، يعمل في هذا الشأن عدد كبير من الوسطاء ومن بينهم مفوضين من الأمم المتحدة وأوروبا وقطر. والتي بدأت، كمبادرة “روبرت سري” المفوض السابق من قبل الأمين العام للأمم المتحدة في المنطقة، حيث يدار الآن في مجموعة من القنوات بمستوى تنسيق جزئي فيما بينهم. فالمقصود هو انتزاع التزام حماس وربما إضافة ضمانات مسئولين آخرين، للإنضمام إلى وقف إطلاق نار إنساني والإمتناع عن أعمال العنف ضد إسرائيل في قطاع غزة لفترة يمكن أن تصل إلى ثلاث حتى خمس سنوات. وفي المقابل يحتمل أن تزود إسرائيل بعض التسهيلات الإقتصادية الفعلية للقطاع وأيضاً تخفيف الحصار. وفي المستقبل يبدو هذا كإختيار إحتمال حدوثه ضئيل، ويحتمل أن تدرس إسرائيل من جديد إجراءات رفضتها بشدة في الماضي، مثل إقامة ميناء بحري في غزة تحت رقابة خارجية.
حسب ما كُتب هنا قبل أسبوعين، فكرة كهذه يمكن أن تثير إهتمام رئيس الوزراء “بنيامين نتنياهو” حيث تتيح له عرض الحرب في غزة في الصيف الماضي كإنجاز طويل المدى، بدلاً من مهمة لا تنتهى ومثيرة جداً للجدل، مثلما تبدو اليوم. ومثلما دافع “إيهود أولمرت بعد فوات الأوان عن إعتباراته في الحرب الأسوأ على الإطلاق، وحرب لبنان الثانية وبالتفاخر في سنوات الهدوء على الحدود الشمالية منذ عام 2006 – يمكن نتنياهو أن يبرر بنظرة إلى الوراء إجراءاته في غزة بحجج مشابهة وتوضيح أن موافقة حماس لوقف إطلاق النار على المدى البعيد تعكس نجاح الجيش الإسرائيلي في المعركة.
ومع تسوية غير مباشرة فى غزة لن تطلب حكومة نتنياهو الجديدة أي تنازلات أساسية لحماس ولا حتى إعتراف فعلي به (هذا ما لا يريده التنظيم) أو الإنسحاب من أجزاء من الوطن. وأكثر من ذلك: عن طريق التنسيق مع حماس، إلتفت نتنياهو يميناً إلى رئيس السلطة الفلسطينية “محمود عباس (أبو مازن) ويمكنه درء بعض المطالبات على الساحة الدولية بأن إسرائيل لا تفعل شيئاً على الجانب الفلسطيني. وبنظرة أبعد، إذا حدد نتنياهو التحدي على الجبهة الشمالية أمام حزب الله كتهديد أمني خطير جداً، ومن المعقول أن التهديد يمكن أن يزداد في السنوات القليلة القادمة إن لم يصل إلى الحرب، تعفيه عملية وقف إطلاق النار طويلة المدى بشكل مؤقت من هذا الصداع المزمن وتتيح للجيش الإسرائيلي التركيز في أعنف مواجهة والتى على الأرجح ستؤدي إلى إشتعال الوضع.
الأمر المثير للإنطباع، هو أن الإدارة السياسية لحماس تميل نحو تأييد هذه التسوية. بعد ثلاث عمليات عسكرية قامت بها إسرائيل ودمرت القطاع تماماً خلال خمس سنوات ونصف، هناك شك كبير فيما إذا كان لدى “إسماعيل هنية” ورجاله رغبة في حرب أخرى على المدى القريب. ويبدو أن “خالد مشعل” رئيس المكتب السياسي للتنظيم خارج البلاد والذي قاد الجبهة المشتعلة في الحرب العام الفائت، أصبحت وجهة نظره معتدلة. ويمكن أن يكون للتقرب بين الجناح السياسي في حماس وبين السعودية علاقة بذلك. فالآن يبدو أن حماس على حق بشأن قبول شروط الإتفاق من إسرائيل. في المنظومة الأمنية من يعتقدون أنه يمكن الإستمرار والعمل في إطار الوضع القائم بتغييرات بسيطة وليس تقييد إسرائيل بإلتزامات متعنتة للغاية.
وتبدو المعوقات من كل مكان كثيرة. تعترض السلطة الفلسطينية بشدة بسبب مخاوفها من زيادة قوة حماس على حسابها وإستمرار تجميد قناة التواصل بينها وبين إسرائيل. وأيضاً التغطية العدوانية للمفاوضات بين حماس وإسرائيل في الصحف في رام الله يثبت ذلك. ويدينون في الضفة حماس بسبب إستعدادها للتخلي عن المطالبة بحل القضية الفلسطينية والتسليم الفعلي للإنفصال الإسرائيلي القسري بين الضفة والقطاع. وأيضاً مصر والتى تعرقل مؤخراً إجراءات قانونية لإعلان حماس كتنيظم إرهابي غير قانوني على أراضيها، لازالت تشكك في نوايا التنظيم الفلسطيني.
لكن يبقى الجناح العسكري لحماس هو حجر العثرة الرئيس. فقد أفاد تقرير المراسلين المتخصصين في الشئون العربية أول أمس (الأربعاء) في الصحافة الإسرائيلية على عودة “محمد الضيف” رئس الجناح العسكري الذي نجا خلال الحرب من محاولة أخرى من جانب إسرائيل لإغتياله، وهو ما كان يبدو أنشطة كاملة. فتطلعات ضيف هي التي جذبت حماس وإسرائيل إلي الحرب الماضية، عندما جهز مع رجاله عملية عن طريق نفق في منطقة كيرم شالوم (كرم أبو سالم). وأدى إحباط العملية المخططة علي يد الجيش الإسرائيلي وجهاز خدمات الأمن العام (الشاباك) في بداية يوليو الماضي، إلى تدهور الوضع والتصعيد. كما أن الجناح العسكري في حالة إنفصال عن الإدارة السياسية وفي مقابل هذا جددت علاقتها مع إيران، يمكن التقدير بثقة انها ليست حريصة على السماح بالهدنة طويلة الأمد. ولذلك كلما إكتملت المفاوضات حيال وقف إطلاق النار، زاد خطر الجناح العسكري حيث أن لديه موقف غير موقف الإدارة السياسية للتنظيم وسيبادر بعمل عسكري آخر، بهدف تأمين عدم عقد إتفاق غير مباشر مع إسرئيل.
ينشغل الآن الجناح العسكري بمجهودات موسعة لإعادة قدراته العملياتية، والتي تتضررت بشكل كبير جداً في الحرب وضعفت بسبب الإجراءات المصرية لوقف عمليات تهريب السلاح إلى القطاع. وتصنع حماس في القطاع صواريخ ذات نطاقات مختلفة وبشكل متسارع ولكن تعرقله الصعوبات في إعادة قدرة الأسلحة التي هربتها لها إيران في الماضي. وفي مجال آخر، هناك صعوبات أقل: إعادة عمل الأنفاق الهجومية الخاصة به حيث نجح التنظيم في إستخدام قدرته فقط بشكل جزئي في الحرب السنة الماضية. وفي ظل نقص البدائل الأخرى يمكن الإفتراض بأنه في حالة تجدد الحرب، ستعاود حماس الهجوم من الأنفاق، حتى لو كان زعمائها يقدرون أن إسرائيل مستعدة اليوم بشكل أفضل لهذا التحدي.
مخاوف حزب الله
أهتم الأسبوع الأمني الماضي بغزة وأكثر منها بالجبهة الشمالية. زادت سلسلة الأحداث على الحدود السورية – هجوم جوي نُسب إلى إسرائيل وهجوم آخر نفت مسئوليتها عنه، ومحاولة وضع عبوة ناسفة إنتهت بمقتل الخلية الإرهابية بجوار السياج الأمني في الجولان، “إرسال” مدافع الهاون إلى الأراضي الإسرائيلية في الجولان من خلال الحرب الأهلية في سوريا – المخاوف القديمة التي تظهر أحياناً منذ بدء الحرب الأهلية السورية منذ أكثر من اربع سنوات.
وبالفعل يبدو أنه بدأ تغيير حقيقي للوضع، من ناحية إسرائيل. إمتنع كل من حزب الله وسوريا حتى الآن عن الرد المباشر على الهجوم على منشآت السلاح في منطقة القلمون بالقرب من الحدود السورية اللبنانية والتي نسبت إلى إسرائيل قبل أسبوع. حتي أن خلية واضعي العبوات الناسفة في الجولان وصلت من المقاطعة بولاء معسكر الأسد وفي الأطراف الشمالية للحدود مع إسرائيل، هناك شك إذا كانت هذه عملية فورية ومباشرة من جانب حزب الله ورد على قصف السلاح. ولم يتطرق التنظيم إلى الأحداث علناً، وهكذا لعل العملية قد أغلقت بالنسبة له وربما يكون هناك المزيد.
من ناحية إسرائيل هناك أسباب أخرى للمتابعة الحثيثة للأحداث في سوريا في تلك الأيام. يتضح في الفترة الأخيرة مجهود متجدد لحزب الله للحصول على المزيد من الأسلحة المتطورة من خلال التأكيد على تطوير مستوى دقة الصواريخ والقذائف التي في حوزته. هذا الإجراء متأثر على ما يبدو من التقلبات في نظام الأسد. وحقيقة أن الرئيس السوري قد منى في الشهرين الماضيين بمجموعة من الخسائر ويفقد سيطرته تدريجياً على مدن ومحافظات ذات أهمية كبيرة في شمال الدولة، بينما تلقى عدة هجمات من تنظيمات المتمردين السُنة بالقرب من دمشق كما يثير ذلك الغضب في صفوف حزب الله.
إذا إستمر ضعف الأسد – هناك متخصصين غربيين يصفون وضعه بالأخطر وهذا منذ ثلاث سنوات – سيكون لحزب الله الحافز الأقوى لتوسيع مجهودات التهريب. أولاً من الناحية التكتيكية إذا تعرضت مناطق حيوية لخطر سيطرة المتمردين عليها (مثل مستودعات أسلحة ضخمة تحيط بمطار دمشق، ومنطقة الحدود مع لبنان التي من خلالها تتم عمليات التهريب)، يخاف التنظيم من فقدان إحتياطاته من الأسلحة في سوريا.
ثانياً، إذا حدث ما يبدو في هذه المرحلة كسيناريو متطرف، بسقوط نظام الأسد، سيشعر حزب الله أنه مُهدد بواسطة تنظيمات المتمردين في لبنان وأيضاً بواسطة إسرائيل. وفي رأيه، يبدو أن التنظيم في حاجة إلى الأسلحة المتطورة على الأقل كسلاح “مخل التوازن” أو “كاسر التعادل” مثلما يطلقون عليه في إسرائيل وأكثر من ذلك باعتبارها وسيلة للحفاظ على توازن الردع المحتمل ضد إسرائيل وأعدائه الآخرين في المنطقة. فالهدوء النسبي على الحدود الإسرائيلية اللبنانية لمدة تسع سنوات هو أولا وقبل أي شئ ردع مشترك: هو تفهم الطرفين للضرر البالغ الذين سيضطرون لتلقيه إذا إندلعت الحرب مرة ثانية.