بقلم: يوئال چونيسكي، كوبي ميخال
معهد دراسات الأمن القومي
على خلفية حالة الجمود التي أصابت العملية السياسية مع الفلسطينيين وارتفاع مستوى المخاطر الأمنية التي تواجهها إسرائيل بعد تضاعف قوة العناصر الإسلامية الراديكالية وحالة التصعيد في الصراعات التي يخوضونها، تتعالى أصوات الجمهور الإسرائيلي التي تنادي بالتعاطي مع “المبادرة العربية للسلام” بشكل إيجابي كأساس للمفاوضات بين إسرائيل وجيرانها. من جانبها، تسعى المملكة العربية السعودية ودول الخليج، على الأقل على مستوى التصريحات، إلى جانب بعض عناصر المجتمع الدولي، إلى إعادة بعث المبادرة وتقديمها لإسرائيل كأساس ملائم لحل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.
يطالب مقترح جامعة الدول العربية، في جوهره، إسرائيل بالإنسحاب الكامل من كافة الأراضي التي أحتلتها في 1967، بما فيها هضبة الجولان، والتراجع لحدود الرابع من يونيو 1967 (ويشتمل ذلك على التخلي عن المنطقة اللبنانية المحتلة في جنوب لبنان)؛ وتحقيق حل عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين الفلسطينيين، استناداً إلى قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة 194 (مع رفض تسوية يتوطن، بموجبها، اللاجئين في الدول التي تستضيفهم)؛ والاتفاق على إقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة في المناطق المحتلة بداية من الرابع من يونيو 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأن تكون عاصمتها القدس الشرقية. في المقابل، تعلن الدول العربية عن انتهاء الصراع الإسرائيلي- العربي، ويوقعون على اتفاقية سلام مع إسرائيل ويقيمون معها علاقات “عادية” (علاقات عادية- باللغة العربية، مع تحاشي استخدام “طبيعية”).
طوال سنوات كانت السعودية ذاتها، سلبية للغاية، بخصوص الدفع بالمبادرة – وبمثابة دليل على ذلك، فإنه من المحتمل أن تكون المبادرة، بالفعل محاولة سعودية لتحسين صورة المملكة التي لحقها الضرر بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. طرح العاهل السعودي الراحل “عبدالله بن عبد العزيز”، ولي العهد في حينه، الذي أصبح ملكاً لاحقاً، البرنامج خلال قمة الجامعة العربية التي انعقدت حينئذ في بيروت في الـ28 من مارس 2002، وتم التصديق عليها آنذاك. كما تم إقرارها نهائياً مجدداً، بضغط أمريكي، خلال مؤتمر الجامعة العربية في الـ28 من مارس 2007. وفي 2013 أعلنت دول الجامعة العربية استعدادها المبدئي لتبادل الأراضي في إطار اتفاقية سلام إسرائيلية- فلسطينية (دون المساس بالصيغة الرسمية للمبادرة)، لكنهم رفضوا القيام بـ “خطوات بنّاء للثقة” أخرى تجاه إسرائيل، في إطار محاولة خلق أجواء إقليمية داعمة للعملية السياسية، بزعم أن “الكرة حاليا في ملعب الجانب الإسرائيلي”.
والسؤال الجوهري في هذا السياق، هو إلى أي مدى تبقي المبادرة بمثابة إملاء أو فرض للشروط؟ اشترطت الدول العربية إقامة العلاقات مع إسرائيل بتحقيق مبادئ المبادرة، وليس قبل أن يتم تحقيقها أو خلال تحقيقها، وأنها ليست مستعدة حالياً، لإجراء مباحثات مع إسرائيل حول ضرورة تغيير صيغة المبادرة أو بلورة صيغة توافق إسرائيل عليها. في الواقع، بعد المعركة التي نشبت بين إسرائيل وحماس في صيف 2014- عملية “الجرف الصامد” – ألمح السعوديون، من جانبهم، أن المبادرة ما زالت مطروحة على الطاولة وأنه يمكن إجراء تعديلات عليها ملائمة للواقع الإقليمي المتغير، بما في ذلك إضافة مبدأ تبادل الأراضي إليها. مع ذلك، ليس هناك أي دليل على أن الجامعة العربية مستعدة لأن تعتبر المبادرة أساساً لنقاش مشترك مع إسرائيل حول تغييرات في مبادئها.
من الجدير بالذكر أنه، وفق مصادر أجنبية، تقيم إسرائيل علاقات وتعاوناً مع عدد من الدول العربية المهمة، التي لا يوجد بينها وبين إسرائيل اتفاقيات سلام. وحتى الآن، تتمتع تلك الدول بمميزات العلاقات مع إسرائيل دون الاضطرار إلى دفع ثمن لذلك أمام الرأي العام العربي، المعارض لإقامة علاقات مع إسرائيل بشكل عام، وخصوصاً طالما لم يطرأ تطوراً على العملية السياسية مع الفلسطينيين. وعليه، فإن أية محاولة لجعل تلك العلاقات علنية، دون تقدم حقيقي للمفاوضات مع الفلسطينيين، من شأنه أن يضر بها. فضلاً عن ذلك، يمكن تقدير أنه حتى في حالة التعجيل بالمفاوضات مع الجانب الفلسطيني، فإن تلك الدول ستفضّل، بشكل واضح، أن ترافق العملية من الخارج.
في هذا السياق، يبرز السؤال، إلى أي مدى ستكون “مكونات التطبيع” المختلفة، مثل تمكين شركات الخطوط الجوية الإسرائيلية بأن تحلّق فوق أراضي شبه الجزيرة العربية أو فتح مفوضات تجارية في الدول العربية، يمكن أن يعتبرها الرأي العام الإسرائيلي بمثابة شواهد كافية للإستعداد للتقدم صوب تكوين العلاقات. في النهاية، ستكون أثمان التسوية مع الفلسطينيين واحتمالية الخطر المتجسد فيها، باهظة للغاية بالنسبة لإسرائيل، بخصوص جيرانها وثمن اتفاقيات السلام الموقعة بينها وبين الأردن ومصر. مصر والأردن هما دولتان ذات سيادة وجديرتان بالمسئولية، دولتان وقعتا على اتفاقيات سلام، في حين أن الدولة الفلسطينية، التي ستكون نتاج الإتفاق، ستضطر إلى أن تسلك طريقاً طويلاً آخر- إذا تم بالفعل إقامتها – حتي يتم إثبات حسن نواياها وقدرتها على التصرف بموجب الإلتزامات الدولية والاتفاقيات.
وبناء على ذلك، سيكون من الصواب أن تعلن إسرائيل عن رؤيتها للمبادرة العربية كأساس لمفاوضات، يتم خلالها مناقشة وبلورة مبادئ متفق عليها بخصوص اتفاق إقليمي، يتم إبرامه على أساس نظام أمني إقليمي، تكون فيه القضية الفلسطينية ركيزة أو جزء ضمن كامل الكيان الإقليمي الواسع وليس قضية مستقلة في حد ذاتها. يتعين على إسرائيل أن تقود تطلعاً لتحويل المبادرة العربية محل الإتفاق، بعد مفاوضات بين الأطراف وموائمات ملتزمة (مثل التطرق إلى هضبة الجولان في سياق سوريا الممزقة)، بقدر من المنطق النظامي الجديد، الذي من شأنه أن يكون، من بين أمور عدة، مُلزِماً للعالم العربي على تحمل مسئولية حقيقية بخصوص القضية الفلسطينية. من شأن المبادرة العربية محل الاتفاق أن تحمل معنى إستراتيجياً إيجابياً، إذا ما دفعت الدول العربية البراجماتية، بقيادة مصر والسعودية والأردن، إلى جعل القضية الفلسطينية عاملاً “تحت السيطرة” في النظام الإقليمي الجديد الآخذ في التبلور، ما يعني: تَحَمُلها لمسؤولية منع الانعطاف أو التهرب الفلسطيني من التسوية الأخذة في التشكل.
وإلى الآن، ستظل المشكلة الجوهرية المطروحة على جدول الأعمال، من جانب إسرائيل بالطبع، هي الواقع الإقليمي المتغير. كذلك في حالة توصل الأطراف إلى اتفاقيات وتسويات، فإنه من غير الواضح إلى أية درجة ستكون الحكومات في العالم العربي، بوضعها الحالي، قادرة على أن تلتزم بها. في السنوات الأخيرة ضعفت العديد منها، وحكومات أخرى من شأنها أيضاً أن تضعف في المستقبل، بما يعسر عليها أن تقوم بدورها في الاتفاق مع إسرائيل، إذا ما تم الوصول إليه على أساس المبادرة. في الواقع، ينظر البعض إلى ضعف العالم العربي الآن، على أنه “فرصة سانحة” وفرصة استراتيجية لتحسين وضع إسرائيل الإقليمي من خلال دفع التعاون مع عدد من الدول العربية، التي تشاركها مخاوفها ومصالحها المشابهة بخصوص إيران والمحور الشيعي الذي تقوده، وأيضاً بخصوص القوى السياسية وغير السياسية المؤيدة للإسلام الراديكالي. في المقابل، يعتقد الآخرين أن ضعف الدول العربية، في ذروة تفكك النظام الإقليمي، يعني، أن الوقت ليس مناسباً للمحاولة والدفع بتسويات بعيدة المدى معها لأنه من المتوقع أن يكون عسيراً عليها تحقيق اتفاقيات مع إسرائيل- في حالة تم الوصول إليها. علاوة على ذلك، في هذه المرحلة، ليس واضحاً على الإطلاق إلى أي مدى ستؤثر التقلبات الإقليمية على درجة المرونة، التي سيكون العالم العربي مستعداً لإبدائها بخصوص المبادرة.
وإلى الآن، المصلحة التي يتعين أن تقود التطلع الإسرائيلي للوصول إلى صيغة منسقة ومتفق عليها للمبادرة العربية ظلت على حالها. ومن شأن هذه الصيغة أن تتحول إلى المنطق الضابط لنظام إقليمي أكثر استقراراً، يضم كذلك تسوية متفق عليها للقضية الفلسطينية. وسييسر الاستعداد العربي لمناقشة المبادرة ومناسبتها للواقع المتغير في الشرق الأوسط على إسرائيل كذلك اتخاذ خطوات حقيقة بنّاءة للثقة في الساحة الفلسطينية وتوجيه التأييد الدولي المبدئي للتسوية الإسرائيلية- الفلسطينية تجاه تسوية إقليمية، إسرائيلية – عربية، على أساس نظرية متعددة الأطراف. على ما يبدو أن التوجه متعدد الأطراف، على أساس المبادرة العربية في نسختها المطورة والمتفق عليها، سيكون أفضل من التقدم في المسار الإسرائيلي- الفلسطيني الثنائي، الذي على ما يبدو أن الأمل فيه متبدد، في ظل الملابسات الحالية.