بقلم: دانيال جرينفيلد
قص لنفسك رقعة لاصقة واكتب عليها اسمك، وخذ كوب من الورق ملئ بالماء القذر في يدك، وبإمكانك أن تجلس كشخص بين جمهور يتألف من آلاف الأشخاص من يهودية اليسار المؤسسية، وأمامك يجلس طقم نقاش يرأسه “بيتر بينارت” أو “چيفري جلودبيرج” أو شخص على شاكلتهم. ستكون المحاضرة على الأرجح متظاهرة بالورع، والجمهور يشعر بالممل، والموضوع الحتمي: الفجوة المتسعة بين يهود أمريكا وإسرائيل.
بوسعك أن تتثاءب حين تنصت إلى النقاشات العادية التي تتناول “المستوطنات”، و”طابعها الديموقراطي” و”حل الدولة الواحدة”. وعندما تستفيض، باختصار ستجرى مناسبة لجمع تبرعات لصالح “چي ستريت” وسيحاولون أن يصدروا لك حباً متشدداً لصالح الدولة اليهودية من قبل حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (المعروفة بالاختصارBDS) وحينها بمقدورك أن تخرج إلى الشارع لتستنشق قليلاً من الهواء الطلق.
إن الفجوة ليست بين يهود إسرائيل ويهودية أمريكا؛ بل هي بين يهود أمريكا وباقي العالم. إن عصابة “چي ستريت” تصدر أسطورة أن إسرائيل تتحول إلى دولة منعزلة. وأن الإسرائيليين عادوا إلى مخاوفهم الداخلية في وقت لم يعد لديهم الكثير من المشترك مع وجهات النظر المتقدمة الخاصة بباقي العالم، بل إنها ليست إسرائيل التي تتحول إلى دولة منعزلة.
إن انتخاب “نتنياهو” مجدداً يثبت أن إسرائيل تحديداً تتطابق جيداً مع مخاوف يهود الشتات. يكشف استطلاع رأي، أن ثلثي يهود بريطانيا قد صوتوا لصالح “نتنياهو”. في الانتخابات التي أُجريت في بريطانيا، تكشف استطلاعات الرأي أن نحو 70% من اليهود يصوتون لصالح المحافظين.
وفقط 22% من اليهود أيّدوا حزب العمال البريطاني. حقيقة أن “إد ميلباند” هو من أصل يهودي لم تساعد في شيء، لأنه كان يُعتقد أنه معادي لإسرائيل. حتى من كان يدير “أصدقاء إسرائيل في حزب العمال البريطاني” أعلن أنه سيصوت لصالح “كاميرون”.
يهود أمريكا الليبراليين: جنس آخذ في الإنقراض
إن الفجوة التي نحن بصدد الحديث عنها تكمن بشدة فقط بين إسرائيل ويهود أمريكا. بينما يهود بريطانيا وإسرائيل يصطفان سوياً في المعركة. اليهود الليبراليين في أمريكا هم الذي لا يزالون خارج الصورة. ويجب أن نضيف، أن اليهود في إسرائيل وفي بريطانيا ليسوا وحدهم.
في الانتخابات التي أجريت في كندا عام 2011، حصل الحزب المحافظ برئاسة رئيس الحكومة “هاربر” على 52% من أصوات اليهود. واليهود الذين تخلفوا عن التصويت تصل نسبتهم إلى 3% فقط بعد الصوت البروتستانتي. أشار خبراء إلى أن عاملين هما اللذان دفعا اليهود لدعم المحافظين: العامل الأول، هو دعم رئيس الحكومة “هاربر” لإسرائيل؛ والثاني، القلق المتزايد بين يهود كندا من الإسلام.
إن كان الأمر كذلك، فاليهود في إسرائيل، وفي بريطانيا وكندا يصطفون في المعركة جنباً إلى جنب. يهود أمريكا هؤلاء الذين لا يزالوا منعزلين.
في الانتخابات الأخيرة التي أجريت في أستراليا، وردت تقارير عن إجماع شبه تام بين زعماء الجالية اليهودية على دعم الحزب الليبرالي الذي يعتبر حزب محافظ أكثر من حزب العمال البريطاني. وبالفعل أغلب المقاطعات المعروفة بأنها يهودية في سيدني، أدت إلى فوز المرشحين من الحزب الليبرالي. إن كان الأمر كذلك، يجوز أن نضيف بأن اليهود من إسرائيل، وبريطانيا وكندا وأستراليا يقفون سوياً… وكل ذلك بينما ينصت يهود يساريون في أمريكا إلى ندوات يسارية متشددة تقطر السم ويتمتمون بازدراء بأن إسرائيل تتحول إلى دولة منعزلة.
حتى يهود فرنسا هم أيضاً يصوتون لليمين. حظى “ساركوزي” في حينه بتأييد واسع جداً من بين اليهود مقابل الدعم الذي حصل عليه بين عامة السكان. حتى ” مارين لوبان” قد زوّدت عدد أصوات اليهود لها. إذن لديك يهود إسرائيل، وبريطانيا، وكندا، وأستراليا وفرنسا يقفون سوياً في المعركة. هؤلاء اليهود الليبراليون في أمريكا هم المنعزلون ولا يقفون جنباً إلى جنب مع باقي اليهود في العالم.
يهود يساريون متشددون يرشون المياه: الإسرائيليون لا يتفقون مع جدول أعمالهم السياسي؛ اليهود، على الأقل أولئك الذين نعرفهم، يسيرون بعيداً إلى اليسار. ويجب على إسرائيل أن ترضخ أكثر لمطالب الإرهابيين حتى تحتويهم. إلا أن يهود أمريكا ليسوا يهود العالم أجمع. نوع من الانحراف القياسي. لقد أصبحوا فقاعة يسارية متشددة في مجتمع عالمي رصين يميني.
سياستهم ليست نتاجاً للإلتزام، بل غياب للإلتزام. إنهم يتوجهون إلى تيار اليسار بسبب اللامبالاة التي يتصفون بها وفقدان الهوية اليهودية. بنظرة عامة عالمية هؤلاء اليهود الليبراليون في أمريكا لا يسيرون بالتزامن مع الشعب اليهودي.
محاربة المعاداة للسامية؟ أم قضايا الإجهاض والمثليين هي الأكثر تشويقا؟
عندما بدأت الأحزاب اليسارية في بريطانيا، وكندا وأستراليا في تطوير مواقف مضادة لإسرائيل، انصرف الناخبون اليهود عنها. فقط في الولايات المتحدة اليهود الليبراليون يلتصقون بشكل مثير للشفقة بالبنية المثقوبة للحزب الديموقراطي. إنهم مازالوا ملاصقون لها رغماً عن “چيمي كارتر” الذي قام بكل شيء باستثناء اعتمار عمامة “حماس”، ورغماً عن “أوباما”. إنهم مازالوا يصوتون لصالح الديموقراطيين حتى عندما يعتلي منصة الخطابات شخص على شاكلة العنصري المعادي للسامية العنيف “آل شاربتون” ليلقي خطاب في مؤتمر الديموقراطيين ويصبح رجل مهم بين حلفاء “أوباما”.
في الحقيقة، القليل من يهود أمريكا صوتوا لصالح “أوباما” في المعترك الإنتخابي الثاني له، لكن في الواقع أي صوت لصالحه كان أكثر من اللازم.
لقد تفوق يهود أمريكا في الماضي في ثقتهم بأنفسهم؛ في هذا المجال يبدون اليوم ضعفاء وخائفون. منظمات يهودية أمريكية تسلمت القيادة في محاربة المعاداة للسامية. اليوم هذه المنظمات في بريطانيا، وإسرائيل وفرنسا تؤدى العمل، ومن غير مستعد لأن يؤديه هى المنظمات اليهودية الأمريكية. ليس هناك أية منظمة يهودية مؤسسية قادرة على أن تقف ضد “أوباما” حتى عندما يمنح ختم اعتماد القنبلة الإيرانية.
المؤسسة اليهودية تشغل نفسها كثيراً في الحفاظ على قبضتها بين أحفادها الذين ينساقون وراء التيار اليساري، أكثر من تصديها المؤثر للمعاداة للسامية التي يتصف بها اليسار الراديكالي. وفي غضون ذلك، أية حركة معادية للسامية على غرار BDS بمقدورها أن تختار لنفسها أية شخصية يهودية رمزية لتمنحها حمام تطهير يهودي لكراهيتها. لقد حركت المؤسسة نفسها من أجل احتواء “جيل جديد” ومحتضر من اليهود الشبان الذين يميلون بشدة إلى تيار اليسار ولا يهتمون بشأن إسرائيل.
هؤلاء هم يهود المستقبل في أمريكا. اليهود الذين لا يبالون بشأن إسرائيل ولا يبالون أيضاً إن كانوا سيبقون يهوداً. على الأرجح أن هذا هو مستقبل اليسار، لكنهم ليسوا مستقبل الشعب اليهودي. رئيسة اللجنة الوطنية الديموقراطية، “ديبي واسرمان شولتز” تصرخ بأن على اليهود أن يصوتوا للديموقراطيين بسبب قضية الإجهاضات. زعمت مؤخراً أن اليهود يدعمون بشكل ساحق قضايا المثليين. تصر “شولتز” على رأيها بأن “قيم الديموقراطيين مستمدة من يهوديتنا”. لكن ماذا سيحدث عندما لا يقبل يهود أمريكا بعد الآن نسختها اليهودية، نسخة الإجهاضات التي تضعها على رأس سُلم الأولويات أمام إسرائيل؟
ثلاثة أرباع الأطفال اليهود في مدينة “نيويورك” هم من الحريديم. كشف استطلاع رأي أجرته جامعة سيانا أن الصوت اليهودي توّزع بشكل متواز تقريباً بالمقارنة بين “أوباما” و”رومني” عشية الانتخابات الأخيرة. إن الآداء الرديء للغاية الذي قام به “أوباما” كان في الأحياء الحريدية. حيث فاز “رومني” بنحو 90% من الأصوات. وقد سُجلت نتائج مشابهة أيضاً في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 2008. إن اليهود الحريديم يمثلون أقلية داخل أقلية لكنهم أقلية تنمو بسرعة لأنهم لا يتقاسمون مع الديموقراطيين قيم حقوق المثليين وحرية الإجهاضات.
إن اليهود الأمريكان الليبراليين هم جنس منقرض معرض للخطر. أطفالهم وأحفادهم ينصهرون بسرعة في خانة منقطعي الصلة. في الحقيقة لقد نجح اليسار في أن يسيطر على غالبية المؤسسة التنظيمية الخاصة باليهود، لكن في غضون قرابة عشر سنوات سيفقد قاعدته الأمريكية. نشطاؤهم سيكون لزاماً عليهم أن يتقهقروا إلى الخلف، ورش العمل والندوات ستنقشع من بين أوساط الجاليات اليهودية التي لن يكون لها تمثيل بها؛ هذا لا يعني أنها لن تواصل ثرثرتها عن مدى انفصال إسرائيل، حتى عندما تنفصل عن واقع ديموجرافي متغير فيه يهودية أمريكا الحديثة ستكون مكترثة بإسرائيل، وليس في الأساس بزواج المثليين.
يهود العالم وإسرائيل إتجهوا نحو اليمين
كونهم قد انتخبوا الاتجاه المحافظ، فهذا يعني أن اليهود في إسرائيل يسيرون بشكل مواز مع يهود بريطانيا، وفرنسا، وكندا وأستراليا. كل هؤلاء يفصلون قيم المجتمع عن أيديولوجيته. أصبح يهود أمريكا الليبراليون بسرعة فائقة هم آخر جنسهم. إسرائيل ليست في حاجة إلى أن تنسجم معهم. الاختيار بيدهم: إما الانضمام إلى إخوانهم وأخواتهم اليهود أو الانهيار الأيديولوجي اليساري الذي سيقضي عليهم، مثلما لا يقدر على أن يمنحهم أي مستقبل بالمفهوم القومي، والعرقي أو الديني.
لقد اتخذ يهود العالم قرارهم. والآن أصبح الأمر مرهوناً بيهود أمريكا، إن أرادوا أن ينقذوا مستقبلهم. BDS، ومدارس “هلّيل” المفتوحة على مصراعيها أمام الجميع و”چي ستريت” ليسوا مستقبل الشعب اليهودي. إنها سكرة الموت لأيديولوجية فقدت صلاحيتها، تحاول أن تنظم قواتها الأخيرة لمواجهة يائسة أمام الدولة اليهودية والشعب اليهودي. وأن يهاجروا إلى إسرائيل.
هذه الأيديولوجية خسرت كما ستخسر دائماً. إن الشيوعيين اليهود الساخطين الذين أشرفوا على نفي الحاخامات وهدم الكنائس، رأوا أبنائهم يرقصون بهجة في عيد التوارة في موسكو ويخرجون في عمليات احتجاجية من أجل أن يسمحوا لهم بأن يخرجوا من الإتحاد السوفيتي هؤلاء اليهود الأمريكان الملاصقون لليسار قد يعيشوا ليروا بأنفسهم التاريخ يعيد نفسه.