في مطلع أغسطس 2015 أعلن “محمود عباس” عن نيته تقديم الاستقالة من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، في حين صاحب هذا التصريح استقالة عدة قادة آخرين، وفي 1 سبتمبر 2015 أعلن عن تخليه عن هذا المنصب وكذلك منصبه كرئيس اللجنة التنفيذية لفتح، التنظيم الرائد في منظمة التحرير الفلسطينية – ولكن لم يُعلن بعد عن موعد محدد لتنفيذ الاستقالة. هذا التصريح لم يكن مفاجئاً بالنسبة للشارع الفلسطيني، وهناك الكثيرون ممن يميلون للتطرق إليه بتشكك وسخرية ويرون فيه مراوغة سياسية، هدفها مساعدة عباس في توسيع الشرعية لمدّ فترة رئاسته التي استغرقت سنوات طويلة في هذا المنصب.
من الممكن أن نشير إلى عدة أسباب لإعلان تنحي “عباس” عن المنصب. إلى جانب سنه المتقدم (81 عاما)، يفقد قاعدة الشرعية الشعبية لحكمه، حيث لا ينجح في تحسين رفاهية السكان الفلسطينيين بشكل ملحوظ وكذلك النضال الشعبي والسياسي، الذي ينادي به، لا يجذب الجمهور وغير مقنع، بأن الأمل في هذا النضال. “عباس”، كباقي قادة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، مرهون بشدة بأساس وجود السلطة الفلسطينية. ومستقبلهم الاقتصادي والسياسي مرهون بكونهم جزء من هذه المنظمات.
هذه التبعية هي سبب كاف يحول دون قيام أولئك القادة بالمبادرة بحلّ السلطة الفلسطينية. وبالتزامن مع ذلك، المحادثات والمحاباة في صفوف السلطة هي بمثابة سر مكشوف والإحباط العام في هذا السياق يتجلى من بين عدة أمور أيضاً في استطلاعات رأي الجمهور التي تشير إلى أن تأييد السلطة وقادتها يتراجع على نحو مستمر.
في 2 سبتمبر 2015 نُشرت في صحيفة هآرتس نتائج استطلاع رأى جمهور عريض، حيث بلغت نسبة تأييد عباس إلى حوالي 16% فقط ونسبة تأييد أقل لقادة فلسطينيين، ذُكر اسمهم كمرشحين لخلافته. نسب الثقة العامة المتدنية تلك، إلى جانب كونها تبرير للخطوة السياسية التي اتخذها “عباس”، توضح أيضاً التشكك، الذي أبداه الجمهور الفلسطيني فور علمه بتصريح استقالته.
فضلاً عن ذلك، شعر “عباس” بأن المجتمع الدولي يفقد اهتمامه بالصراع الإسرائيلي-الفلسطيني ويخشى من تراجع الإدارة الأمريكية عن سعيها لإعادة دفع العملية السياسية. هذا، بسبب اعتبارات داخلية-أمريكية، متعلقة اليوم بالرغبة فى تجنب زيادة التوتر في العلاقات مع إسرائيل، على خلفية موافقتها على الاتفاق النووي مع إيران، ومع الجالية اليهودية في الولايات المتحدة.
وبهذا المفهوم، يمكن أن نرى في استقالة “عباس” أيضاً تلميحاً للمجتمع الدولي وتحذيراً من تراجع الحاجة إلى القضية الفلسطينية، وربما أيضاً إيحاء تهديدي بشأن الفوضى، التي من شأنها أن تنشأ على الساحة الفلسطينية في ظل غيابه عن الساحة.
وفي مقابل ذلك، يدرس “عباس” التطورات على ساحة غزة ومنتبه للأنباء حول المفاوضات الجارية بين إسرائيل وحماس، التي ستؤدي ربما إلى اتفاق هدنة أو تهدئة مقابل إعادة إعمار القطاع. هذه الأنباء، خاصة وإن كانت الاتصالات بين إسرائيل وحماس ستستند إلى تفاهمات حول إعادة إعمار، وتهدئة أمنية طويلة الأمد، ستعزز من الشرعية، التي هي في الأساس ليست رسمية، والتي يتمتع بها نظام حماس في القطاع.
لذلك، حتى وإن كان الحوار بين إسرائيل وحماس غير شامل وعملي، فهذا قد يعزز وضع حماس في نظر الجمهور الفلسطيني، ويقضي على أمل المصالحة بينها وبين فتح وإعادة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، وكذلك قد يمثل حافز لحماس لمواصلة المساعي التخريبية ضد السلطة الفلسطينية أيضاً في الضفة الغربية. ينبغي أيضاً أن نضيف إلى كل ذلك الصعوبة التي واجهت “عباس” في مواجهة أعضاء اللجنة التنفيذية، الذين من بينهم “ياسر عبد ربه”، والذي اعتبرهم متآمرين ضد منصبه وسلطته ومؤيدين لمنافسه وألد خصومه، مثل “محمد دحلان”.
من الممكن أن تؤدي استقالة “عباس” إلى انتخاب لجنة تنفيذية جديدة، تروق له – حال بقاءه في المنصب. إن توقيت إعلان الاستقالة ليس من قبيل الصدفة؛ ففي الشهر المقبل من المرتقب أن يجتمع المجلس الوطنى الفلسطيني، لأول مرة منذ عشرين عام.
لائحة المجلس الوطني الفلسطيني تتيح، في شروط معينة، انتخاب رئيس للجنة التنفيذية حتى في ظل عدم اكتمال النصاب القانوني. ولأن أغلبية أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني لا يقيمون في أراضي السلطة وأغلبهم لن يستطيع، أو لن يرغب في حضور الاجتماع، فقد يجد “عباس” نفسه في وضع مريح بالنسبة له لاتخاذ قرارات، وانتخاب أعضاء جدد للجنة التنفيذية، وربما أيضاً لإعادة انتخابه بموجب “قاعدة الحركة”.
التطورات الأخيرة في السلطة الفلسطينية وفي منظمة التحرير الفلسطينية، سواء كانت حقيقية أو كانت بمثابة مناورة سياسية، تشير إلى أزمة عميقة على الساحة الفلسطينية، هي نتاج عمليات تفسخ وفقدان للشرعية مستمر للقيادة الفلسطينية. لايمكن لإسرائيل أن تتجاهل الأزمة، على الرغم من أنه ليس من الصواب أن تحاول من ناحيتها التدخل فيها بشكل مباشر. فأي تدخل إسرائيلي في الأزمة أو محاولات لتسويتها قد يفسد الأمور أكثر من ذلك، حيث أن محاولة التأثير على ما يحدث في الساحة الفلسطينية سيثير معارضة فلسطينية وقد يصّعد التوتر على ساحة الصراع.
والأكثر من ذلك، فإن إشارة إسرائيل إلى زعيم فلسطيني مفضل من ناحيتها سيضّر بشرعيته وشرعية المنظمة التي تسعى إلى تعزيز وضعها وفرض سيطرتها، لاسيما أنها ستثير رفض مجهوداتها لاستئناف التفاهمات السياسية مع إسرائيل، في حالة تفضيلها القيام بذلك. على كل حال، فإسرائيل متعثرة في فخ بين علاقتها مع السلطة الفلسطينية وبين سياستها بالنسبة لقطاع غزة.
الحاجة إلى إعادة إعمار القطاع، التي هى ضرورة استراتيجية وإنسانية، تستلزم التفاهم مع حماس، غير أن التقدم في حوار مع حماس قد يُضعف من وضع السلطة، على خلفية ” لعبة المجموع الصفري” الجارية بين المعسكرين الفلسطينيين المتخاصمين.
لذلك، إسرائيل في حاجة إلى استخدام مراوغة معقدة بين التوترات والشد والجذب ومنطقية التصرف: من المستحسن أن تبادر إسرائيل إلى جانب السعى إلى إعادة إعمار القطاع، بإجراءات هامة في الضفة الغربية، تشمل، من بين ما تشمله، زيادة عدد تصاريح العمل في إسرائيل، وتحسين شروط وإجراءات التحرك في الحواجز الرئيسية بين الضفة الغربية وإسرائيل، وتليين السياسية فيما يخص بتطوير المنطقة الفلسطينية في أراضي المنطقة (ب)، وكذلك الاستعداد لتخصيص مناطق محددة في أراضي المنطقة (ج) تُخصص لغرض تطوير الصناعة والمرافق العامة.
وفي المقابل، يجب على إسرائيل أن تواصل العمل بحزم، وهو ما زاد بالفعل مؤخراً، ضد مخالفي القانون اليهود وأن تبذل قصارى جهدها في تهدئة الساحة بهدف الحدّ من مستوى العنف، واحتواء الأحداث المحلية ومنع انتشارها كالنار في الهشيم.
الفجوة بين إسرائيل والفلسطينيين بخصوص نقطة البداية لاستئناف المفاوضات مازالت شاسعة وعميقة، وأكثر عمقاً بخصوص مخطط تسوية يكون مقبول لدى الطرفين. ناهيك عن فجوات المواقف، التي تصعّب على إسرائيل والسلطة/منظمة التحرير الفلسطينية العودة إلى طاولة المباحثات، ينبغي أن نفترض بأنه في حالة طرأت بالفعل تغييرات جوهرية وشخصية في منظمة التحرير الفلسطينية وفي السلطة، فإن الجانب الفلسطيني سيكون منهمكاً خلال مدة طويلة في السياسة الداخلية، حتى يتفرغ للتفكير والنشاط، وهو ما سيساعد على استئناف المفاوضات. هذا يعني أن انكسار القيادة على الساحة الفلسطينية إضافة إلى بقية الدوافع، سيعمق الأزمة في العملية السياسية.
على كل حال، برغم الاحتمال الضعيف بحلّ السلطة الفلسطينية أو انحدار الحال بها إلى فوضى عارمة، فمن المستحسن أن تستعد إسرائيل لحالة تضطر فيها إلى اتخاذ خطوات أحادية الجانب، دون التنسيق مع قوات الأمن الفلسطينية، حتى تحدّ من المخاطر وأن تحافظ على المصالح الحيوية. ينبغي دائماً أن تكون هناك خطة بديلة لمواجهة تحقق هذا السيناريو.
كوبي ميخالINSS-