عاد الملف السوري مؤخراً ليكون محور الاهتمام الدولي بسبب تيار اللاجئين الذي تدفق إلى أوروبا إثر عجز الأردن، ولبنان وتركيا في استيعاب مزيد من اللاجئين من سوريا، وكذلك إثر الخطوة التي نفذها الرئيس الروسي “ڤلاديمير بوتين” من تعزيز كبير للمعونة العسكرية لنظام بشار الأسد. هذه المعونة تشمل إقامة مطار روسي عسكري أمامى فى منطقة الساحل السوري، قرب الميناء البحري في طرطوس واللاذقية، في منطقة الإقليم العلوي، الذي يعدّ قاعدة الدعم الرئيسي لنظام الأسد.
تسبب تعزيز التدخل الروسي في سوريا في قطع الاتصالات التي أُجريَت بين اللاعبين الخارجيين، المعنيين بالأحداث الدائرة في سوريا، في محاولة لبلورة تسوية سياسية على أساس اتفاق يرحل بموجبه الأسد نفسه، لكن خلال الفترة الانتقالية يبقى طابع النظام الحالي على حاله. هذا، على افتراض، أن الجيش السوري وأجهزته الأمنية ضروريين لاستقرار الوضع في سوريا إبان الفترة الانتقالية، وكذلك أيضاً بسبب الحاجة إلى صدّ تدخل “الدولة الإسلامية” وباقي القوى السلفية-الجهادية، التي تفوق قدراتها قدرة باقي اللاعبين المشاركين في القتال في سوريا.
“الدولة الإسلامية” كتهديد رئيسي، لكنه غير كاف لبلورة اتفاق موسع
على ما يبدو، أنه يمكننا أن نشير إلى مصلحة كبيرة مشتركة بين كل اللاعبين الخارجيين المتدخلين في سوريا – الولايات المتحدة، روسيا، الاتحاد الأوروبي، إيران، المملكة العربية السعودية، تركيا، الإمارات والأردن – كذلك أيضا للأقليات في سوريا (الأكراد، الدروز، العلويين وغيرهم).
هذه المصلحة، هي تفكيك “الدولة الإسلامية” ومنعها بأي ثمن من فرض سيطرتها على سوريا بعد رحيل الأسد. هذه المصلحة المشتركة يجب أن تمثل المرساة لتشكيل حكومة انتقالية في سوريا، لتعمل على استقرار الوضع فيها وتضع خارطة طريق لبلورتها في المستقبل. لكن، يبدو بأنه لا يمكن الدفع بالمصالح الحيوية المشتركة بين أغلب اللاعبين، كدافع لبلورة تسوية مؤقتة في سوريا برعاية إقليمية ودولية. ولهذا السبب، يبدو أنه لا أحد يهمه تعجيل مسألة إنهاء الظاهرة التي تُدعى “الدولة الإسلامية”.
إن الدول العظمى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة ليست على استعداد لدفع الثمن اللازم لأجل تفكيك قوات “الدولة الإسلامية” كذلك أيضاً لأجل تغيير نظام الأسد – أي إرسال قوات مقاتلة برية، فهذه هي الطريقة الفعّالة الوحيدة لتغيير الوضع. وبشكل غير متوقع، هناك قيم إيجابية تترتب على مواجهة “الدولة الإسلامية”، مثل قنوات تنسيقية واتصالات مع الإيرانيين وأيضاً مع لاعبين آخرين، ليسوا حلفاء للولايات المتحدة. بالإضافة إلى أننا في هذه المرحلة، الولايات المتحدة وحلفائها ليست متحمسة لضرب “الدولة الإسلامية” بالفاعلية المطلوبة، لأن انهيارها قد يزيد من قوة نظام الأسد.
إيران، التي ترى في “الدولة الإسلامية” تهديداً مباشراً على هيمنتها في العراق، وسوريا ولبنان، بل وأبعد من ذلك، تخشى أشد الخشية من عواقب محاربة التحالف الدولي لـ “الدولة الإسلامية”، من ضمن الأمور التي تخشاها، احتمالية وجود عسكري أمريكي موسع في المنطقة – قرب حدود إيران في العراق، وفي إقليم كردستان وشرق تركيا، كذلك أيضا في سوريا والأردن. يرى الإيرانيون في تعزيز نظام الأسد وسيلة رئيسية لصدّ تمدد “الدولة الإسلامية” أو سيطرة عناصر السنة المتطرفة، وخاصة السلفيين-الجهاديين (مثل جبهة النصرة) على سوريا.
لاعب رئيسي آخر وهو تركيا، بقيادة الرئيس “أردوغان”، التي تستعين بـ “الدولة الإسلامية” كستار دخاني خلفها، تستهدف وتدك قواعد تابعة لحزب العمال الكردستاني والخلايا الكردية في شمال العراق، وفي شمال سوريا بل وفي تركيا نفسها. وباستمرار التقلب الذي يميّز آرائه ومطالبه، أسقط “أردوغان” تغيير الأسد من رأس سلم الأولويات التركية. بالنسبة لمحاربة “الدولة الإسلامية”، أوضح، أن تركيا ستتصدى لها بحزم عندما يحتشد حلف شمال الأطلسي “الناتو”، بقيادة الولايات المتحدة، لهذا الهدف بكامل قواه.
وبالنسبة للمملكة العربية السعودية والإمارات، إيران، هي العدو الرئيسي وغرض سياستهما، هو الحدّ من نفوذها في الشرق الأوسط، وخاصة فى سوريا ولبنان. ترى بعض البلدان العربية في الصراع المستمر وغير محدد الهدف ضد “الدولة الإسلامية” أنه أخف الضررين، فى مقابل خياران أسوأ من ناحيتهما لمستقبل سوريا: الأول-هيمنة إيرانية عن طريق أذرعها، مثل حزب الله في سوريا؛ الثاني-إمساك العناصر المنحازة مع جماعة “الإخوان المسلمين” لزمام الحكم في سوريا، أو بدلاً منها السلفيين-الجهاديين، الذين يرون فيهم عدو رئيسي في الصراعات الدائرة داخل المعسكر السني نفسه.
وبالتالي، “الدولة الإسلامية”، هي وسيلة بالنسبة لهم لعرقلة صد الخيارين السيئين – هيمنة إيرانية أو حكم المتطرفين المسلمين في سوريا. المنطق الشرق أوسطي يطالع خلق نفوذ بواسطة القوة الهدّامة، وليس بواسطة الإسهام الإيجابي والقوة البناءة. وبالتالي، وبنظرة قصيرة المدى ونتيجة لضرورة اختيار جانب ما في هذا الوقت، تساعد الدول السنية البراجماتية (أو تسمح بالمساعدات) العسكرية والاقتصادية للتنظيمات السلفية-الجهادية وللإخوان المسلمين، الذين يحاربون قوات نظام الأسد.
نظرة إلى الأمام
المأساة السورية مكونة من حقيقة أن نظام الأسد والدولة الإسلامية يستنزفان دوائر المواجهة في العالم العربي-الإسلامي:
(1) دائرة بين طائفتين، بين المعسكر السني، الذي تقوده المملكة العربية السعودية، وبين المعسكر الشيعي، الذي تقوده إيران.
(2) دائرة النزاع داخل المعسكر السني، التي لا تقل قوة عما يدور على الصعيد الطائفى، ويتضمن ثلاثة قمم رئيسية – الدول البراجماتية، اللاعبين السلفيين-الجهاديين وحركة الإخوان المسلمين. ونظام الأسد و”الدولة الإسلامية” هما أداة يتحكم فيها لاعبين أكثر قوة، يتمتعون بحصانة بسبب عدم حزم خصومهم فى إسقاطهم، في حين أن مجرد وجود “الدولة الإسلامية”، بقوتها الحالية وكذلك الخوف من إحداث فراغ في سوريا يحولان دون التدخل الخارجي لإسقاط نظام الأسد.
كان السؤال الجوهري الذي يُطرح في كل المباحثات الجارية بين اللاعبين المشاركين من وراء الستار، هو، هل سيضطر الأسد أن يترك كرسيه، أم أنه سيكون جزء من التسوية التي ستُشكّل الفترة الانتقالية حينها في المستقبل.
يبدو أن الجمهور السوري سيحسم مسألة مخطط التسوية الدائمة. قرر المعسكر السني بقيادة المملكة العربية السعودية أن ينضم إلى الدول المنحازة مع الإخوان المسلمين – تركيا وقطر – التي لا ترى أي خيار في إطاره، يحتفظ الأسد بكرسيه حتى في المرحلة الانتقالية.
في مقابل ذلك، إيران، التي ترى في بقاء الأسد شرطا ًأساسياُ من ناحيتها، تدعمها روسيا بل وتنسق معها. روسيا من جانبها شددت موقفها من جديد وتعزز بشكل ملحوظ المعونة لنظام الأسد، لدرجة التدخل العسكري الفعّال.
إن المعسكر السني البرجماتي، الذي يعتبر إسقاط الأسد هدفاً رئيسياً، عزّز قوات الثوار ضد نظام الأسد في شمال وجنوب سوريا. دعم قوات الثوار في سوريا سيستمر حتى المرحلة التي يضعف فيها بشكل ملحوظ ويمثل عبئاً أكثر منه مكسبا بالنسبة لإيران وروسيا. في هذه المرحلة من الممكن صد حق الڤيتو الخاص بهما تجاه التسوية الانتقالية، التي لن تشمل وجود الأسد في الحكم. ورداً على ذلك، إلى جانب تعزيز المعونة العسكرية التي سيقدماها إلى الأسد، ستعمل إيران وروسيا على تشكيل وضع يتخلى في إطاره نظام الأقلية العلوية عن القطاع الذي يقع في المنطقة الساحلية السورية في الشمال، مروراً بحماة وحمص وحتى دمشق وغلاف لبنان.
دلائل هذا الأمر بالنسبة لإسرائيل
في الواقع، لقد أصبحت سوريا اليوم منشقة من الداخل وكذلك مقسمة إلى مناطق نفوذ لقوات خارجية. مع انتشار القوات الروسية، تصبح المنطقة الساحلية خاضعة لنفوذهم إلى درجة السيطرة على المنطقة؛ شمال سوريا، لاسيما إقليم كردستان، الخاضع للنفوذ تركي؛ والمحور الرئيسي لسوريا من دمشق إلى حمص والحدود السورية اللبنانية الخاضعة للنفوذ الإيراني، بمعاونة حزب الله: شرق سوريا هو منطقة قتال للائتلاف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد “الدولة الإسلامية”.
المنطقة الوحيدة، التي لم يعلنها أي عنصر بأنها منطقة نفوذ، هي منطقة جنوب سوريا، التي تشمل منطقة هضبة الجولان. من الضروري لإسرائيل الحفاظ على حرية الحركة العملياتية في هذه المنطقة وفي لبنان، وبالتالي فهي تحشد قواها الآن بعدما اتضح أن روسيا ترسل قوات وتبني بؤر عسكرية في المنطقة الساحلية السورية. هذا هو السبب الذي دفع رئيس الحكومة الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” بصحبة رئيس الأركان العامة “جادي أيزنكوت”، الى المسارعة لزيارة موسكو بهدف تشكيل اتفاقات بشأن تجنب المناوشات بين القوات الإسرائيلية والروسية، وخاصة المجال الجوي، كذلك أيضا تجنب وصول أسلحة روسية متقدمة، مثل صواريخ أرض جو، بمقدورها أن تمسّ بحرية الحركة العملياتية للجيش الإسرائيلي في المنطقة اللبنانية وفي جنوب سوريا. علاوة على ذلك، تخشى إسرائيل من وصول الأسلحة المتقدمة التي يوفرها الروس لقوات الرئيس الأسد إلى ايدي حزب الله، وخاصة منطقة لبنان. يُحتمل أيضا أن تكون إسرائيل قد بحثت مسألة ما إذا كان يمكن عبر القناة الروسية الوصول إلى تفاهمات بشأن تأسيس قواعد اللعبة أمام محور إيران-الأسد-حزب الله، من منطلق الاعتراف بالتهديد المشترك من جانب “الدولة الإسلامية”.
في هذه المرحلة، على إسرائيل أن تفكر تفكيرا عميقاً فى العواقب التي ستترتب على تغيير الوضع في سوريا واحتمال تسلل قوات ثوار الجهادية السلفية إلى جنوب سوريا – المنطقة الوحيدة الخالية من النفوذ الفعّال لللاعبين الخارجيين. على الحكومة الإسرائيلية أن تحدد أهداف طويلة المدى على الساحة الشمالية، وبما في ذلك الاستعداد للقتال من أجل حرية التحرك العملياتية من أجل تأسيس منطقة نفوذ إسرائيلية في نطاق جنوب لبنان، وهضبة الجولان وجنوب سوريا.
معهد ابحاث الامن القومي- أودي ديكيل