في وسط انفجار العنف الذي حدث في الأسابيع الأخيرة، تصدرت القدس الأحداث، على الرغم من أن دائرة الأحداث قد امتدّت إلى الضفة الغربية كاملة وقد وقعت داخلها عمليات إطلاق نار، وعمليات طعن، ورشق للحجارة وإلقاء زجاجات حارقة.
لقد امتد التصعيد أيضا إلى حدود قطاع غزة، حيث عاد المئات من مواطني القطاع ليحاولوا اختراق الجدار الأمني والدخول إلى إسرائيل. تشير ملامح الأحداث، بأن الدافع وراء سلسلة العمليات الإرهابية دافع مزدوج – ديني وقومي، سياسي واجتماعي.
تتميز أحداث الغليان بأن القوة المحركة لها هم الشباب الفلسطيني من سكان القدس الشرقية، الذين يبدون استعداداً لعمليات التضحية من خلال الاستعداد لمواجهة قوات الجيش والشرطة الإسرائيلية.
أغلبهم جريئون، لم يخوضوا بالطبع الانتفاضة الثانية. العامل الذي أجّج النيران هو النضال في سبيل الأقصى – المسجد وضاحيته، بإيحاء التحريض، الذي في أساسه كاذب، الذي يدّعي، بأن إسرائيل تنتهك الوضع الراهن في الموقع وتحدد بشكل متراكم حقائق جديدة في الساحة، بهدف تشييد الهيكل على أطلال المسجد.
يتمركز التحريض على النشاط، الظاهر في الساحة حول المسجد، الذي تمارسه عناصر استفزازية إسرائيلية، والتى تقوم سراً في هذا المكان بنشاط ديني. لقد أخرجت الأحداث في الحرم القدسي الشبح الديني من الزجاجة واندمجت في موجة تحريضية، تشمل حملات موسعة على شبكات التواصل الاجتماعي من قلب الحركة الإسلامية – الفصيل الشمالي في إسرائيل وأذرعها في السلطة الفلسطينية، بما فيها منظمة فتح. هؤلاء يقولون، إن إسرائيل ستفرض على الحرم القدسي النظام المطبّق على الحرم الإبراهيمي في الخليل، الذي يخصص أوقات صلاة منفصلة لليهود وللمسلمين. وبالتوازي مع ذلك، تنشر حماس في غزة حملات تدعو إلى طعن الإسرائيليين.
إن التربة الخصبة لتحريض الشباب في القدس الشرقية ودفعهم للمشاركة في الحملة الإرهابية، هو الإحباط المتواصل، وانقطاع الأمل واليأس، وكذلك الوعي الشائع بينهم، بأن كافة الطرق مغلقة أمامهم. من الجدير بالذكر أن أكثر من 30% من الشباب من سكان القدس الشرقية يتسربون من التعليم بسبب عجز في الفصول الدراسية، وبعضهم يعمل في أعمال خدمية والبعض الآخر عاطل (في السنوات الأخيرة طرأ تراجع وصل إلى حوالي 20% في مستوى تشغيل عرب القدس الشرقية).
كل ذلك يبعث بينهم شعوراً بأنه ليس لديهم ما يخسرونه ويشجع التطرف الديني والقومي. إن المواد التي تُنشر على شبكات التواصل الاجتماعي، بما فيها حملات “الدولة الإسلامية”، يثير هذا الشعور. في هذه المرحلة يبدو أن الشباب يشعر بالنصر – فهم المبادرون والمتسببون في هلع وفزع الجمهور الإسرائيلي – وهو الشعور الذى يؤثر سلباً أيضا على النشاط التجاري في إسرائيل. وفقا لفهم العناصر المعنية، العنف يؤتي بثماره: فبسببه سُجل انخفاض شديد في صعود الإسرائيليين إلى الحرم القدسي وعلى هذه الخلفية ترددت تصريحات الحكومة الإسرائيلية، بأنه لا نية لها بتغيير الوضع الحالي في المكان.
تمارس إسرائيل سلسلة جهود للعمل على استقرار وتهدئة الوضع، الذي ينعكس فى انتشار موسع لوحدات الشرطة، وحرس الحدود والجيش في القدس، ومراقبة مخابراتية وملموسة على مخارج الأحياء العربية من شرقي المدينة، ومع تغيير أوامر إطلاق النار ضد المعتدين بسكين أو حجارة، وبخطوات عقاب – هدم بيوت الإرهابيين ومصادرة الهويات الزرقاء، التى تمنحهم حرية الحركة. لكن، تلك الوسائل لم تقلل دافع هؤلاء الشباب بل خلقت شعوراً بالعقاب الواسع بين السكان العربي غير المتورط (هناك نحو 50% من المشاركين في دائرة العمل بين سكان القدس الشرقية يعملون في غرب المدينة أو في إسرائيل).
كما أتضح أن لإسرائيل عوامل مؤثرة محدودة للغاية على شباب القدس الشرقية. ولا توجد قيادة مؤثرة بين العرب في المدينة على المستوى السياسي – القومي، المحلي والاجتماعي، وكذلك على المستويات الأسرية والتعليمية. يُمكن أن نرجع ذلك، من ضمن أسباب عدة، إلى أنه سواء إسرائيل أو السلطة الفلسطينية فكلاهما قد قضى على تأثير أغلب طبقات القيادة في الأحياء العربية للقدس الشرقية ولم يسمحوا بصعود زعامة محلية قوية طوال سنوات.
لقد دحضت الأحداث في القدس ثلاث فرضيات أساسية، على ضوئها تحركت الحكومة الإسرائيلية حتى الآن. الأولى تفيد بأنه يمكن الحفاظ على الوضع الراهن، ليس فقط في الحرم القدسي بل أيضاً في الوضع الاستراتيجي الإقليمي لإسرائيل طوال فترة زمنية ما، وأنه سيترتب على أي بديل آخر تداعيات سلبية أكثر من مثليتها الكامنة في الوضع الراهن. واتضح مجدداً، كما في صيف 2014 في عملية “الجرف الصامد”، وفي أغلب الحوادث العنيفة في القدس، أنه لا يمكن الحفاظ على الوضع الراهن، كما يزداد وضع إسرائيل السياسي-الأمني سوءاً.
الفرضية الثانية، مكملة للأولى، تفيد بأنه يمكن عزل إسرائيل عن تأثير التقلبات في العالم العربي، وخاصة من استقواء التطرف بتأثير “الدولة الإسلامية” وتنظيمات أخرى سلفية-جهادية. لا يمكن اليوم أن نتجاهل تسرب الأفكار والمنطق المتطرف أيضاً إلى الساحة الفلسطينية والميل المتزايد بين عناصر فلسطينية في بالتمسك بالنظريات الدينية. حددت الفرضية الثالثة، وهي سياسية في الأساس، بتصريحات وليست بأفعال، أن القدس موحدة بحدودها الواسعة ستبقى على حالها. من يستمرون في قول ذلك هم أشخاص منفصلون عما يحدث في الواقع في القدس الشرقية، وفي الأساس في الأحياء وفي القرى التي ضُمت إلى شرق المدينة – حيث يسود إهمال دام 48 سنة في كافة الأصعدة. ليس هناك تقريباً دخول لإسرائيليين في تلك الأماكن وفي الأيام الأخيرة وضعت إسرائيل حواجز ونقاط تفتيش لمنع حرية انتقال سكان القدس الشرقية إلى غربها وتفكر في إقامة أسوار واقية بين منازل الأحياء اليهودية والأحياء العربية.
من أجل أن نتعامل مع الوضع، إضافة إلى مجموعة اقتراحات موضع نقاش طُرحت مؤخراً، نسعى لان نعرض أربعة خطوات بلورة لازمة، ثلاث على المدى الزمني الآني وواحدة على مدى زمني أطول.
- تقديم اقتراح إسرائيلي لإقامة لجنة تنسيق لبحث الوضع الراهن في الحرم القدسي، بمشاركة إسرائيل، والأردن، والولايات المتحدة، وممثلي السكان الفلسطينيين في القدس. أيضا يمكن أن نبادر بدعوة دول عربية، مثل السعودية، ومصر والمغرب، كحضور (وليس كأعضاء) في هذه اللجنة. على خلاف الاقتراح الفرنسي، ليس هناك نية لتدويل الصراع ونشر مراقبين دوليين في الحرم القدسي، ليراقبوا ما يحدث في المكان. إن دعوة دول عربية رائدة كحضور في اللجنة يمكن أن يستند إلى مصلحة مشتركة لإسرائيل مع بعض هذه الدول، على ضوء التحديات المشتركة في الشرق الأوسط وكذلك الحاجة لإعادة الدفع بالعملية السياسية بين إسرائيل والفلسطينيين. هذه الخطوة الأولى بمقدورها أن تمثل أساساً لتوسيع التعاون إلى مجالات أخرى.
- خطوات اقتصادية: تأثير سلبي خطير للأحداث الأخيرة من شأنه أن ينشأ بسبب تراجع في عدد المشترين وفي حجم المبيعات إثر تضرر الشعور بالأمن الشخصي. هذا من شأنه أن يؤدي في الأساس إلى تضرر في المشروعات الصغيرة (انخفاض في ضرائب الأملاك، وتسهيلات ضريبية)، وفي الأساس في القدس، التي بدأ يتراجع فيها النشاط التجاري، وذلك إلى جانب دفع المبيعات لتشجيع نشاط الاحتياجات. وبالتوازي مع ذلك، من الضروري الدفع بمشاريع تأهيلية وتوظيف الشباب العاطل في القدس الشرقية، وكذلك توجيه المثقفين العرب إلى فرص عمل لائقة.
ج. إشراك قيادة عرب إسرائيل في التفكير وفي اتخاذ القرارات: يبدي زعماء الجمهور العربي في إسرائيل حتى الآن مسئولية ويتجنبون تصادماً أكبر. يلزم تكثيفاً وتحفيزاً للحوار معهم، ومشاورتهم وتنفيذ خطوات تنسيقية معهم لتهدئة الوضع. يستلزم الأمر، أن يجري رئيس الحكومة أو وزير الداخلية حوار جاري مع الزعماء العرب ورؤساء السلطات العربية في إسرائيل. وكذلك أيضاً، من الموصى به تأسيس قنوات حوارية بين الحاخامات والشيوخ المسلمين، باسم تهدئة الحافز الديني في الأحداث.
د. على مدى زمني أطول – تأسيس سلطة مدنية منفصلة للأحياء والقرى العربية بالقدس الشرقية، التي انضمت إلى القدس الشرقية الأردنية مع توسيع الدائرة المدنية للقدس في 1967 (لا يشمل ذلك البلدة العتيقة والقدس الشرقية الأردنية ويشمل الأحياء الواقعة خارج الجدار الأمني). يمكن أن ندعو هذه السلطة «بالقدس الشرقية الكبرى» وأن نشجع فيها إدارة مستقلة واختياراً للسكان. وتكون السلطة الجديدة خاضعة لوزارة الداخلية وتحظى بالميزانيات اللازمة، من أجل تطويرها وزيادة رفاهية السكان.
(هناك حوالي 40% من سكان القدس اليوم هم من عرب القدس الشرقية، اليوم هم عرب شرق المدينة، في حين أن الميزانية المخصصة لتلك الأحياء تقدر بحوالي 15% فقط من ميزانية البلدية). إن تأسيس “القدس الشرقية الكبرى”، الذي يُحتسب بفاعلية ويحسن ظروف معيشة السكان العرب، سيخدم المصالح الإسرائيلية سواء استمر الوضع السياسي الحالي لفترة زمنية أو تم إجراء تسوية سياسية على أساس الدولتين والعاصمتين في منطقة القدس.
وكمرحلة مبكرة يمكن أن نشجع إقامة وتعزيز إدارات مجتمعية في الأحياء الواقعة في القدس الشرقية، التي تخضع لإدارة مستقلة خاصة بالسكان، وتعيين سكان لمناصب عامة وتوجيه ميزانيات مساعدة ودعم لمبادرات الناشطين المحليين، وكذلك يمكن تمكين نشأة قيادة محلية في الأحياء والقرى. هذه القيادة المحلية، التي ستنشأ من الساحة ولن “توضع” من سلطة عليا، من شأنها أن تأخذ بالتدريج مسئولية لاحتياجات السكان – بنى تحتية، تعليم، مجتمع، اقتصاد، مراكز تأهيل وتشكيل، ثقافة وغيرها.
هذه القيادة المفقودة اليوم على الأرض، باستطاعتها أن تكبح جماح الشباب وتمنع التصعيد في الأحداث العنيفة، التي يعاني منها جميع الأطراف. إسرائيل ليس لديها ما تخسره من الدفع بهذه الفكرة، حيث أن رفضها ومحاولة القضاء عليها من قبل القيادة الفلسطينية سيثبت مجدداً، أنها تحبط أية فرصة عملية لتحسين الوضع في منظومة العلاقات المعقدة بين إسرائيل والفلسطينيين.
حتى وإن كانت التنبؤات التي تفيد بأن العاصفة ستهدأ في الوقت القريب، ومن دون الاعتماد على سلسلة العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين، مازال يمكن الدفع بتلك الخطوات بأي شكل، من أجل زيادة فرصة تجنب اندلاع الفوران القادم في العاصمة وتأثيره السلبي على كل أنحاء البلاد.
أودي ديكل -معهد دراسات الامن القومي