لقد وضعت مسألة التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل السلطة الفلسطينية منذ إقامتها في مأزق. فمن ناحية، السلطة الفلسطينية مرهونة بعلاقات متبادلة “طبيعية” مع إسرائيل، وخاصة على الصعيدين الأمني والاقتصادي، المتعلقين بالتعامل اليومي بين الطرفين. لهذا السبب، كانت التجربة الفلسطينية في مسألة التطبيع منذ اتفاقية أوسلو أقل تحفظاً عن باقي الدول العربية، حتى تلك التي وقعت على اتفاقيات السلام مع إسرائيل. ومن ناحية أخرى، على الرغم من مرونة الفلسطينيين النسبية، إلا أنهم اعتادوا العمل على التصدي لمظاهر التطبيع بين إسرائيل والدول العربية، وخاصة دول الخليج والمغرب، من أجل إبقائها آداة ضغط على إسرائيل قبيل المفاوضات حول اتفاق دائم. إن مبادرة الملك السعودي “فهد” من عام 1981، ومبادرة الملك “عبد الله”، التي طرحتها المملكة العربية السعودية في عام 2002 (في شكلها الحالي “المبادرة العربية”)، رسخّت المعادلة التي أرادها الفلسطينيون عندما ربطوا تطوير العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل بتشكيل اتفاقية سلام شاملة.
أدى الجمود السياسي في السنوات الأخيرة إلى تشديد موقف الفلسطينيين بشأن مسألة التطبيع، سواء على الصعيد الاقتصادي أو على الصعيد الثقافي. ربما قد زادت الدعاوي الفلسطينية لمقاطعة البضائع والمنتجات الإسرائيلية، بوحى من حركة BDS العالمية، وأحياناً أيضاً كانوا يمنحون تسهيلات رسمية للمحال التي امتنعت عن شرائها. إن اللقاءات الوديّة الإسرائيلية-الفلسطينية التي دُفعت في الماضي في إطار مبادرات للتقريب بين الشعوب من جانب منظمات سلام إسرائيلية تراجع عددها وأصبح يُنظر إليها على أنها تطبيع مرفوض. كانت الذروة في هذا السياق في الرفض الفلسطيني لوجود مباراة ودّية بين برشلونة وفريق إسرائيلي-فلسطيني مشترك، كان من المفترض أن يُجرى اللقاء في صيف 2013. كما أعلن “جبريل الرجوب” رئيس اتحاد كرة القدم الفلسطيني، أن التطبيع في مجال الرياضة ما هو إلا “جريمة في حق الإنسانية”، التي تهدف إلى التعتيم على “جرائم الاحتلال”، وادان الفلسطينيين المشاركين فيها. كما دعا منظمات السلام الإسرائيلية إلى التحرك للمصالحة بين الشعبين بطرق أخرى، مثل الاحتجاج على التنكيل الذي تمارسه إسرائيل بحق الرياضيين الفلسطينيين.
على الرغم من إصرار السلطة الفلسطينية على معارضة التطبيع، فإن القضية التى بقيت محل خلاف بينها وبين عدة دول عربية كانت لها علاقة بزيارات وفود رياضية على أراضيها في إطار فعاليات ومناسبات رياضية دولية، وهى تستلزم بطبيعتها استخدام المعابر الحدودية الخاضعة للإشراف الإسرائيلي، والتعاطى مع التعليمات الإسرائيلية والمكوث في الأراضي التي تقع داخل السيادة الإسرائيلية. طلب الفلسطينيون من إخوانهم العرب بألا يُدسخلوا تلك الزيارات في المحظورات المتعلقة بالتطبيع، لكن لم يكن يُستجاب لهم دائماً بالإيجاب. كانت تكمن حجتهم الرئيسية في أنه ينبغي تكثيف مقاطعة إسرائيل نفسها والامتناع عن الدخول في وضع مزري – مقاطعة السلطة الفلسطينية مثلاً، وسحب السيادة منها كحق استضافة منافسات دولية وطرد الرياضيين الفلسطينيين من ملعبهم. فعلى سبيل المثال، في مجال المارثون الدولي الذي أجراه الفلسطينيون في نوفمبر 2013 أكدّ “محافظ القدس”، “عدنان الحسيني”، أن مشاركة الرياضيين العرب في المنافسة هدف إلى “دعم السجين وليس إدارة علاقات طبّيعية مع السجّان”. كما أضاف “الرجوب”، أن غياب اللاعبين العرب عن المارثون يخدم “الاحتلال”، في أنه يتيح له إخفاء جرائمه بحق الشعب الفلسطيني.
احتدم الجدل الفلسطيني-العربي حول التطبيع وقيوده في سبتمبر 2015، لحظة تقديم المملكة العربية السعودية طلب نقل مباراتها أمام المنتخب الفلسطيني إلى أرض محايدة في إطار تصفيات مونديال 2018. رفض السعوديون الذهاب إلى إستاد فيصل الحسيني الذي يقع في بلدة الرام على مشارف القدس. وكانت الحجة الرسمية – “سلطات عليا”. بالفعل، يرفض المنتخب السعودي دخول حدود الضفة الغربية، بسبب ضرورة المرور للوصول إليها بجسر ألنبي. وإن قاموا بذلك، على حد زعمهم، فإنهم سيعترفون بإسرائيل، التي لا تربطهم بها علاقات دبلوماسية رسمية. فإن وصل السعوديون إلى ملعب الرام، سيكون ذلك بمثابة إنجاز سياسي من الدرجة الأولى في نظر الفلسطينيين، حيث سيزيد تأييد قضيتهم، ولكن يرى آخرون أن هذا ينطوي على إنجاز لصالح إسرائيل، والدليل على ذلك أنها تتيح سير الحياة العادية بشكل طبيعي في الضفة.
لقد حاول الفلسطينيون أن يخففوا بعدة طرق المخاوف التي طرحتها المملكة العربية السعودية من إمكانية أن يطلب من لاعبي منتخبها أثناء عبور الحدود إجراءات متعلقة بالتطبيع، خاصة التوقيع على جوازات سفرهم بأختام إسرائيلية. وعلى الصعيد البيروقراطي، عرض الفلسطينيون طرق تسمح للسعوديين الوصول إلى المباراة “من دون أي اتصال مع الاحتلال وعن طريق تأشيرة من قبل السلطة الفلسطينية”. وعلى الصعيد الرمزي، أوضح الفلسطينيون، أن زيارة المنتخب السعودي لن يحدث أنها ستؤخذ على أنها ظاهرة تطبيع فحسب، بل سيحتسب للسعوديين خطوة “تمنح تعزيز الحق الفلسطيني في أرض فلسطين وتمثل لطمة على وجه الكيان المحتل [الإسرائيلي]”. إن كان السعوديون يرغبون في ذلك، لكان من الممكن أن تُعتبر هذه التصريحات الفلسطينية لهم مخرجاً محترماً من الرفض الأولي للتطبيع، بما أنهم يتعلقون بالأشجار الشاهقة – أصحاب الشأن الفلسطينيين بجلال قدرهم.
ولكن المملكة العربية السعودية أصرت على إجراء المباراة خارج أراضي السلطة الفلسطينية ورفض طرق المرور المطروحة – الأمر الذي سيؤدي إلى تفاقم تدريجي في النبرة الفلسطينية الرسمية ضدها. في البداية، صاحب المطلب الفلسطيني باستضافة المباراة في الإستاد الداخلي في الرام، الإعراب عن التقدير للدعم السعودي للنضال الفلسطيني الذي دام لسنوات عديدة. وعندما اتضح أن السعوديين لا ينوون التنازل عن نقل المباراة ويستغلون نفوذهم في الفيفا من أجل ترجيح الكفة لهم، بدأ الفلسطينيون يوجهون انتقادات تجاه المملكة العربية السعودية، أغلبها ضمنياً. وُصف القرار الأولي للفيفا بأخذ الاستضافة من السلطة الفلسطينية من ضمن ما وُصف بأنه قرار “جائر ومشين”، على الرغم من خلّوه من اتهام السعودية مباشرة بالغدر. صحيح أنهم قد أشادوا بدول، على عكس المملكة العربية السعودية، وافقت على دخول منتخباتها إلى السلطة الفلسطينية بل ورأوا في ذلك مصدر فخر، مثل الإمارات وماليزيا. هذا إلى جانب، أن “الرجوب” لم يخفِ شعوره بخيبة الأمل جراء توجه السعوديون إلى الفيفا بطلب أخذ حق الاستضافة من الفلسطينيين من أنفسهم، من دون التشاور المسبق مع الجانب الفلسطيني. بالمناسبة، لم يفصّل السعوديون ما هي “السلطات العليا” التي تحول دون أن يكونوا ضيوفاً على الفلسطينيين، والتي لا تصرف منتخبات الإمارات وماليزيا عن ذلك.
لقد كشف الجدل المثار مع المملكة العربية السعودية، الازدواجية في موقف الفلسطينيين بشأن التطبيع مع إسرائيل، فضلاً عن، قضية الفصل بين الرياضة والسياسة. على الرغم من أنه في مايو 2015 توجه الفلسطينيون إلى الفيفا بطلب توقيف إسرائيل لاعتبارات سياسية، وبالرغم من أن الحجج التي استخدموها لتبرير وصول المنتخب السعودي إلى السلطة الفلسطينية كانت سياسية هي الأخرى، لم يكن يمنعهم ذلك فى المقابل من دعوة المملكة العربية السعودية لتجنب خلط الرياضة بالسياسة. لقد كشف التطور أيضاً الازدواجية في موقف المملكة العربية السعودية. فمن ناحية، ترغب المملكة السعودية في أن تثبت، أنها تدعم نضال الفلسطينيين “العادل” ضد إسرائيل: والرياضة هي إحدى المجالات التي يحاول الفلسطينيين أن يكتسبوا لهم مكانة دولية وأن يصدروا صورة لدولة مستقلة عن طريقها. ولكن من ناحية أخرى، تمسكت المملكة برفض التطبيع مع إسرائيل طالما لم يتم التوصل إلى سلام شامل، وهذا أيضاً يضرّ بالشأن الفلسطيني.
تواجه العائلة المالكة السعودية في الوقت الراهن مجموعة تحديات من الداخل والخارج منها الحرب في اليمن، وكارثة الحج، وصراعات يكثر الحديث عنها في الإعلام داخل العائلة المالكة ووضع اقتصادي لا تُحسد عليه بسبب تراجع أسعار النفط. على ضوء هذا، من المرجح أن يكون هناك تخوف سائد بين العائلة المالكة بأن يكون وصول المنتخب إلى الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل سيمثل من ناحيتها “خطوة بعيدة للغاية”، حيث ستؤلب عليها انتقادات الرأي العام والمؤسسة الدينية، والمحافظين والمعادين لإسرائيل. والأكثر من ذلك، ارتداع المملكة العربية السعودية عن كافة مظاهر التطبيع، ولو حتى بشكل محدود، يؤكد حجم العوائق التي مازالت تواجه تقدم العلاقات بين إسرائيل وبينها، حتى وإن أقرّ مسئوليها الكبار، بأنهم يوافقون إسرائيل في المحيط الاستراتيجي في الشرق الأوسط، وأن هناك مصالح تجمع بين الدولتين في عدة قضايا. يهدد الفيفا الآن بخطوات عقابية ضد المنتخب السعودي حال رفضه حضور المباراة التى من المفترض أن تُجرى في النهاية في 5 نوفمبر في الرام – ينبغي أن ننتظر ونرى إن كانت ستكون كافية لأن تغير موقفها في هذا الصدد أم لا.
معهد دراسات الأمن القومي
أوفير ڤينتور، يوئال جوجنسكى