كان ظهور داعش في قلب الشرق الأوسط بمثابة مفاجأة استراتيجية من كافة الجوانب.شهدت الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية منذ عام 2013 على عوامل بارزة في قوة وإدارة التنظيم، وقد حذرت من تزايد التهديد من جانبه؛ وأشارت – في الواقع من خلال تحفظاتها – إلى احتمالية أن يحاول التنظيم السيطرة على أراضي في سوريا والعراق، وكانت تعي الصعاب التي تتخلل آداء الجيش العراقي. لكن على المستوى الاستراتيجي، لم تكن النتيجة في عمومها متوقعة من تدفق لعشرات الآلاف من المتطوعين إلى داعش والسرعة التي تحرك التنظيم بها وسقوط الجيش العراقي ونجاح داعش في السيطرة على مناطق واسعة.
يعود الفشل في تقدير إدارة داعش إلى عدم فهم تأثير الفراغات الشاسعة التي نشأت في سوريا والعراق، بل ويعود أيضاً إلى الصعوبة الأساسية في التنبؤ بالنتائج والتداعيات التي ترتبت على الاضطرابات الإقليمية، وتزعزع الأنظمة الحاكمة وظهور لاعبين جدد. بعض مشكلات التقدير التى تتعلق بمثل هذه القضايا تعود إلى عدم وجود مصدر بخصوصها، يمكنه أن يُعْلِمنا ما الذي سيحدث. وبالتالي، فالتنبؤ بمثل هذه القضايا لا يرتكز على معلومات ثابتة بل على مؤشرات تنطوى على إشكالية بطبيعة حالها، وتزيد من خطر الوقوع في فشل التقدير.
كان ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) على مسرح الشرق الأوسط بمثابة مفاجأة استراتيجية من كافة الجوانب. والطفرة السريعة في تصدره للمشهد، خاصة في سوريا والعراق، قد حدثت في الغالب قبيل منتصف عام 2014. قبل ذلك بأقل من عام، لم تتنبأ أية حكومة أو أجهزة استخباراتية، في تلك الدول التي تأثرت بقدر ملحوظ بظهور داعش، بحجم وسرعة الطفرة. كان هناك مسئولون في الولايات المتحدة، وربما أيضاً في بعض الدول في الشرق الأوسط، أخذوا في حسبانهم ملامح نسبية لظهور التنظيم. ولكن لم يقدّر أي منهم، على ما يبدو، أنه في منتصف 2014 سيسيطر التنظيم على ثلث مساحة سوريا وربع مساحة العراق، وسيتغلغل إلى دول أخرى ويهدد مستقبل دول، واستقرارها وبقاء أنظمة، ويقض مضجعها ونمط حياة قطاعات عريضة من السكان.
هذا المقال يهتم ببحث خصائص وأسباب المفاجأة الاستراتيجية التي صاحبت ظهور داعش، كما جاء في تقديرات وتوجهات الإدارة الأمريكية والأجهزة الاستخباراتية الخاصة بالولايات المتحدة. هذا البحث استند في الأساس إلى تقديرات التهديد التي نُشرت علانية مابين عامى 2013-2015 من قبل وكالات الاستخبارات الكبرى منها -وكالة الاستخبارات المركزية CIA، وهيئة استخبارات وزارة الدفاع DIA، وهيئة الإستخبارات التابعة لوزارة الخارجية وإدارة الاستخبارات القومية. وقد استندت أيضاً إلى التصريحات العلنية التي أدلى بها مسئولو الإدارة الأمريكية والمخابرات-الذين فضّلوا في بعض الحالات عدم ذكر أسمائهم. ومع ذلك يجب أن نؤكد على أننا لا ندري ما الذي كُتب وما الذي قيل في تقديرات مُصنّفة من قبل أجهزة المخابرات الأمريكية، وفي الرسائل المتبادلة بينها وبين الإدارة الأمريكية. قد نتلقى صورة من تلك المواد المصنّفة مغايرة بعض الشيء عن تلك الصورة المتضحة من المنشورات العلنية، وكذلك يجوز أن نفترض بأنها ليست مغايرة في جوهرها عن الصورة المعلنة. يجدر بنا أن نضيف بأننا لا نملك في أيدينا بيانات كافية حول تقديرات أجهزة مخابرات أخرى في هذه القضية، لكن من الممكن أن نفترض بأن الأجهزة الأخرى المعنية بهذا الأمر، في أغلبها، قد فوجئت هي الأخرى من انطلاقة داعش في قلب الشرق الأوسط.
ظهور “الدولة الإسلامية”: ماهية المفاجأة
كان للمفاجأة الاستراتيجية التي اقترنت بظهور داعش عدة أوجه:-
أولاً، سبّب داعش المفاجأة بمجرد ظهوره كتنظيم يهدد البيئة المحيطة به من قريب ومن بعيد، أكثر من أي تنظيم آخر سبقه. ولهذا السبب، لم يكن من الممكن التعلم من سوابق تاريخية أخرى كيف يتم التعامل مع نموذج تنظيم داعش، وأساليب تحركه، واتجاهاته، فى محاولة للتصدي له في مرحلة مبكرة.
ثانيا، قدرات التنظيم سببت المفاجأة، كونها غير مسبوقة. إن داعش ليس تنظيماً إرهابياً فحسب، بل إنه يجمع بين قدرات التنظيم الإرهابى وبين قدرات عسكرية يمتلكها جيش صغير، لامتلاكه أسلحة حديثة، بما في ذلك دبابات ومدفعية استولى عليها من جيشي العراق وسوريا. إنه يضم في قيادته ضباط من السُنة كانوا في جيش صدام حسين، والذين أظهروا قدرات على تأهيل واستخدام القوات على مستوى الكتائب، وسيطر التنظيم على مصادر مالية هائلة، عن طريق الحصول على الأًصول النفطية والبنوك واستخلاص أموال الفديات. الطاقة البشرية التي يمتلكها تزايدت عقب تدفق عشرات الآلاف من المتطوعين من أوروبا، ودول الشرق الأوسط ودول إسلامية أخرى إلى صفوفه. لم تكن ظاهرة وصول هذا العدد الكبير من المتطوعين إلى سوريا والعراق من أجل المحاربة في صف تنظيم جديد نسبياً، متعارف عليها في السابق.
ثالثاً، نوايا التنظيم سبّبت المفاجأة هي الأخرى. لم يفهم مسئولو المخابرات والإدارة الأمريكية بالقدر الكافي ولم يستوعبوا احتمالية أن داعش ينوى السيطرة بسرعة على مساحات كبرى، والبقاء فيها وتوسيعها – بما في ذلك مدن كبرى على رأسها الموصل – من خلال الربط بين سوريا والعراق وطمس الحدود بينهما. والأكثر من ذلك، في أنظار داعش، الربط بين سوريا والعراق لم ينشأ فقط لأغراض عملياتية فحسب، بل رجع في المقام الأول إلى رؤية زعيم داعش بإعادة الخلافة الإسلامية – وهى رؤية تهدد مباشرة مستقبل الأنظمة المحلية، وتمثل محور استقطاب لآلاف الشباب الذين انهمروا وراء رؤية سوريا والعراق وانضموا إلى صفوف التنظيم. دلالة رؤية الخلافة فُهمت فقط في مرحلة متأخرة، بعد اختراق داعش لأراضي سوريا والعراق.
في النهاية، لم يستخف مسئولو الإدارة الأمريكية والمخابرات في تقدير قدرات داعش فحسب، بل أيضاً بالغوا في تقدير قوة الجيش العراقي. بعد احتلال العراق عام 2003، بُنيت قوات الأمن العراقية، وتدربت وتسلحت على أيدي المنظومة العسكرية الأمريكية. وحتى 2014 زاد حجم القوات العراقية إلى 650.000 فرد، منهم 280.000 جندي في الجيش، والباقي في أجنحة الشرطة. لكن، عندما بدأ داعش في اختراقه الأساسي للعراق وبالتوازي مع ذلك سيطرته في يونيو 2014 على الموصل، ثاني أكبر مدينة في البلاد، سقطت نحو خمس فرق من الجيش العراقي خلال 48 ساعة، وتوقفت عن العمل كوحدات عسكرية.
وبهذا الشكل، جمع التقدير الخاطئ لنوايا داعش وقدراته، مع السرعة التي عمل بها، وعدم الاعتراف الكافي بضعف الجيش العراقي – كل هذا قد أدى إلى إخفاق التنبؤ المبكر، بأن داعش من شأنه أن يصبح بمثابة صورة أكثر تقدماً من القاعدة، وأن قيوده ستسمح بالتصدي له في مرحلة مبكرة.
فى الواقع سيطر التنظيم على أراضي واسعة في سوريا والعراق، التي يمتلك أغلبها حتى اليوم، على الرغم من المجهودات المناوئة التي يمارسها خصومه والتحالف الذي تشكّل من أجل التصدي له والقضاء عليه.
تحذيرات المخابرات
بدأ الجدل حول مسألة مسئولية إخفاق التحذير من ظهور داعش في الولايات المتحدة في صيف-خريف 2014. وفي 18 سبتمبر 2014 زعم الجنرال “جيمس كلابر”، مدير المخابرات القومية، بأن رجاله قد أوردوا تقارير بتنامى قوة داعش وقدراته وبأسه. وأنهم أيضاً حذروا من قيود الجيش العراقي، لكنهم لم يتنبأوا بشكل مناسب بعدم جديته فى القتال. “لقد كان تقديرنا بشأن داعش أقل من اللازم، وتقديرنا بشأن قدرة الجيش العراقي في الحرب كان أكثر من اللازم. لم نتوقع سقوط الجيش العراقي في شمال العراق”.
استغل الرئيس “أوباما” تصريحات “كلابر” لكى يوجّه جُل اللوم بالفشل إلى الأجهزة الاستخباراتية. كما زعم “أوباما” في أغسطس 2014 أن تقديرات المخابرات لم تتنبأ بدقة بتقدم داعش في العراق وسوريا. وفي نهاية سبتمبر أقرّ “أوباما” بأن الولايات المتحدة لم تقدّر بالشكل الصحيح التطورات في سوريا، التي جعلتها مقصداً للجهاديين من كل العالم. ولدى تطرقه إلى الإخفاقات الاستخباراتية استند الرئيس إلى تصريحات “كلابر” بأن تقديرات المخابرات بشأن داعش كانت أقل من اللازم، وتقديراتها بشأن قدرة الجيش العراقي على الحرب كانت أكثر من اللازم”.
إن محاولة “أوباما” بوضع جلّ المسئولية على التقدير الخاطئ لأجهزة المخابرات قد أثار موجة ردود أفعال ضده، من قبل مسئولي المخابرات وشخصيات سياسية – بحجة أنه يتهرب من الاعتراف بإخفاقاته في هذه القضية، ويقدم المخابرات على أنها كبش فداء. رفضت وكالة الاستخبارات المركزية CIA الاتهامات بشأن الفشل الاستخباراتي في العراق. وقد زعم المتحدث باسم الـ CIA أن من قرأ الناتج الاستخباراتي كاملا الذي أصدرته الوكالة حول داعش، لم يكن ليصبح متفاجئاً. كما زعم مسئول مخابراتي آخر بأن داعش كان خاضعاً لمتابعة على مدار سنوات، وأن المخابرات قد وفرت تحذيرات حول قوته المتزايدة وحول تفاقم التهديد المنبعث منه؛ وقد حُذر صُنّاع القرارات أيضاً من المصاعب في الجيش العراقي، وبالتالي لم يكن هناك داع للمفاجأة عقب سقوطه أمام داعش. كذلك، زعم رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب أنه لم يكن هناك تقصير استخباراتي في قضية داعش، بل أن متخذي القرارات هم الذين فشلوا في مواجهة التهديد الجديد. اضطر البيت الأبيض أن يزعم رداً على ذلك، أن الرئيس لم يتهم الاستخبارات بالفشل، بل حاول أن يوضح صعوبة التنبؤ بجدية جيش يعمل في دولة أخرى فى القتال.
وأثناء الجدال العام الذي تطور في الولايات المتحدة حول مفاجأة داعش، اتضح جزء من صورة تحذيرات المخابرات من المخاطر الكامنة في التنظيم. وفي يوليو 2013 زعم “ديڤيد شيد”، نائب رئيس هيئة استخبارات وزارة الدفاع الأمريكية الـ DIA، أن الجماعات المرتبطة بالقاعدة تتزايد قوتها في سوريا. “في العامين الأخيرين تعاظم حجم وقدرة وفعالية هذه الجماعات … هذه الجماعات لن تعود أدراجها إلى أوطانها عندما ينتهي الأمر. بل ستحارب على هذه الأرض”. عرض تقدير استخبارات وزارة الخارجية لعام 2013، الذي نُشر في أبريل 2014، صورة مماثلة بشأن تعاظم داعش – الذي كان ذراعاً للقاعدة في العراق حتى انشقاقه عن التنظيم في يناير 2014. وبحسب هذا التقدير، في 2013 كثّف داعش عمليات القتل، والتعقيد وانتظام التفجيرات الإرهابية التي نفذها في العراق، وأبدى قدرات متزايدة في التخطيط، وفي التنسيق وإدارة عمليات تفجيرية واسعة ومؤثرة. في نهاية 2013 تزايد القلق بين الأجهزة الاستخباراتية من التدهور الأمني في العراق، حتى على خلفية انتقال قوات داعش من سوريا إلى غرب العراق، منذ ربيع 2013، ومسئولو المخابرات يحذرون من أن داعش أصبح قوة عظيمة في شمال العراق وفي غربها، وبدأ يهاجم مدن ويقتل رجال الجيش والحكومة العراقية.
تزايدت تحذيرات المخابرات منذ بداية 2014، عقب احتلال مدينة الفلوجة وجزء من الرمادي، التي تقع على بعد عشرات الكيلومترات من بغداد. في الواقع، لقد افترض مسئولو الإدارة الأمريكية أنه من الممكن التصدي لداعش وفي النهاية أيضاً إرغامه على التراجع، لكن المخابرات حذرت من هذا الإفتراض. من جانبه، زعم رئيس الـ DIA، الجنرال “مايك فلين”، في تقدير المخابرات السنوي الذي عُرض في مجلس الشيوخ في فبراير 2014، أن داعش سيحاول على ما يبدو أن يحتل أراضي في العراق وسوريا من أجل أن يستعرض قوته، مثلما فعل في الفلوجة وفي الرمادي، وقدرته على إقامة معاقل في سوريا. لكن، قدرته على الاحتفاظ بمنطقة ستكون مرهونة بمصادر التنظيم، والدعم المحلي وردود أفعال قوات الأمن العراقية وجماعات المعارضة الأخرى في سوريا. وبالفعل، تجاوزت تحركات داعش أبعد بكثير لهذا التقدير الحذر. لقد وقع اختراق داعش الكبير للعراق في يونيو 2014، عندما انهمر آلاف الجهاديين السنة من سوريا إلى غرب العراق وشمالها، واحتلوا الموصل وسيطروا على مناطق كبرى من سوريا والعراق.
ما هي الأخطاء التي وقعت؟
لقد كان تنظيم “الدولة الإسلامية” معروفاً لدى الأمريكان منذ عدة سنوات. داعش هو تطور ذراع القاعدة في العراق، الذي كان عدواً لدوداً وصارخاً للقوات الأمريكية التي وُضعت وحاربت في العراق حتى نهاية 2011. لا شك أن أجهزة المخابرات كانت تدرك أنه منذ 2013 تزايد التهديد من داعش، سواء في سوريا أو في العراق، تجاه المصالح الأمريكية الحيوية وتجاه دول مختلفة في الشرق الأوسط. لقد حذرت وكالات الاستخبارات في 2013 من أن الأزمة في سوريا قد زادت من قوة داعش وشجعته على توسيع عملياته خارج حدود سوريا، بينما بالتوازي مع ذلك كان التنظيم يوسع في نفس العام بشكل جذري من التفجيرات الإرهابية ضد أهداف حكومية وعسكرية في العراق.
من هنا يتضح أن الأجهزة الاستخباراتية قد تعرفت بالفعل منذ 2013 على عوامل بارزة في قوة وإدارة داعش.
على الرغم من ذلك، هذا التعرف لم يكن كافياً لمنع الشعور العام – حتى بين الأجهزة الاستخباراتية – بأنه سواء متخذي القرارات أو رجال المخابرات قد فوجئوا ولم يقدروا بالشكل الصحيح نتائج تحركات داعش. كذلك، حذرت أجهزة المخابرات في الواقع من احتمالية محاولة داعش بأن يسيطر على أراضي كي يبقى فيها، لكن مدير الاستخبارات القومية قد استبعد هذا الاحتمال، بتقديره أن أغلب الجهاديين لم يكونوا ليتمكنوا من احتلال أراضي واسعة والاحتفاظ بها طالما هناك دعم محلي، وإقليمي، ودولي، في التصدي لزحفهم، وأن تزايد عددهم سيتم موازنته على ما يبدو عن طريق غياب تشكيل وقيادة موثوقة داخلهم. من جانبه، زعم مدير وكالة الأمن القومي، الـ NSA، الأدميرال “مايكل روجرس”، أن المخابرات لم تقدّر بالقدر الكافي تحوّل داعش من تنظيم إرهابي إلى تنظيم ركّز أيضاً على الاستيلاء على الأرض، وأنهم في المخابرات تحدثوا عن ذلك، ولكن ليس بالتأكيد الكافي.
فضلا عن ذلك، هناك عدة دلائل تشير إلى أنه أيضاً بعد تدفق قوات داعش من سوريا إلى العراق واحتلال الفلوجة والرمادي في بداية 2014، رأى متخذو القرارات في هذا الأمر مشكلة يمكن معالجتها، ولم يولوا اهتماماً كافيا لتحذيرات المخابرات. وفي اللقاء التلفزيوني الذي أُجري مع الرئيس “أوباما” في يناير 2014، بعد عدة أيام من استيلاء داعش على مدينة الفلوجة في العراق، أطلق الرئيس على داعش باستخفاف اسم “فريق JV”، وهو اسم الفريق الاحتياطي في كرة السلة في مدرسة ثانوية أو في جامعة خاصة. أقرّ مسئولو الإدارة الأمريكية أنهم لم يركزوا بما فيه الكفاية على التطلعات الإقليمية لداعش، بل رأوا في نشاطه رد فعل على سياسة الحكومة العراقية العدائية بحق السُنة. كان من بينهم من قلق بالأخص من تكوين خلايا إرهابية عقب عودة الجهاديين إلى أوروبا، ولم ينزعج من مجهودات الاستيلاء على أراضي.
وبعد فوات الأوان، بات من الواضح أنه كلا من مسئولى المخابرات أو متخذي القرارات لم يفهموا بالقدر الكافي تداعيات الانشقاق الذي وقع في سوريا والعراق الذي ترتب على تنامي قوة وطبيعة نشاط داعش. إنهم لم يفهموا أن الفراغ الواسع الذي نشأ في البلدين لم يكن بمقدوره أن يبقى فارغاً لمدة طويلة، وأن عدم سيطرة الإدارة المركزية على أجزائها الكبرى قد استدعى بناء وتعاظم تنظيم من نوع داعش بغرض السيطرة على أراضي مهجورة.
يمكننا أيضاً أن نفترض أن استمرار إدارة “أوباما” طوال فترة طويلة في استبعاد نظام الأسد قد حثه في أن يرى في التنظيمات الجهادية وسيلة مهمة في إسقاط النظام، وساهم في المراحل المبكرة في طمس الخطر والتهديد الكامنين فيها.
كذلك الوضع في العراق ساهم في مفهوم معيب للتهديد. ونظراً لأن داعش هو من صُلْب ذراع القاعدة في العراق، كان يُعتبر في البداية، كونه خليفة القاعدة، تنظيماً سيركز على تفجيرات شديدة، وليس على الاستيلاء على أراضي. علاوة على ذلك، في آخر سنوات وجود القوات الأمريكية في العراق أصاب ذراع القاعدة في البلاد ضعف كبير، عقب سلسلة هزائم أنزلها الأمريكان بهم، وبالتالي فالتهديد أيضاً الذي تجلى منه، بدا على أنه تهديد محدود، على الرغم من أنه تفاقم.
إلى كل ذلك انضم ضرب القدرات الاستخباراتية الخاصة بالولايات المتحدة في العراق. إبان سنوات عمل القوات الأمريكية في العراق بنوا في البلاد منظومة استخباراتية كبرى، صدّرت صورة جيدة للمليشيات والتنظيمات المختلفة التي عملت في العراق. وبحسب أحد التقارير، في هذه الفترة كانت محطة الـ CIA في بغداد، هي المحطة الكبرى في العالم، وكان يعمل فيها مئات النشطاء والباحثين. لكن، عقب خروج القوات من العراق في نهاية 2011 انحسر أيضاً الغطاء الاستخباراتي، لأن الحاجة إليها تضاءلت، ووجود رجال الـ CIA قلّ. ونتيجة لذلك، فقد الـ CIA جزء كبير من اتصالاته مع زعماء القبائل، بما فيهم الزعماء الأكراد، الذين كانوا يملكون معلومات عن نشاط وتحركات داعش، وفقدت الوكالة الكثير من قدرتها للتحذير من خطط داعش ونشاطه. ساهمت أيضاً في ذلك حقيقة أنه كلما كان يُنظر إلى الولايات المتحدة في العراق على أنها ضعيفة، خاصة عقب انسحاب قواتها من البلاد، كلما قل استعداد مسئولين عراقيين للتعاون معها وتوفير معلومات استخباراتية لها. وهناط نظرة أخرى وهى أنه بعد انسحاب القوات الأمريكية أوقفت الولايات المتحدة طلعاتها الاستطلاعية على العراق. كذلك محاولة إقامة مركز استخباراتي مشترك مع العراقيين قد جنى ثماراً متواضعة فقط. يجدر بنا أن نضيف أن مشكلة الغطاء الاستخباراتي لم يخص العراق فقط. زعم مسئولو الإدارة الأمريكية في 2014 أن المعلومات الاستخباراتية محدودة في تلك الدول التي ينشط فيها داعش. لكن بعيداً عن صعوبات فهم تداعيات الوضع في سوريا وفي العراق، لا شك أن إحدى الظواهر الأكثر خطورة قد نبعت من التقديرات المفرطة لقدرات قوات الأمن العراقية. كانت أجهزة المخابرات ومنظومة الأمن الأمريكي تدرك العيوب التي تعتري آداء الجيش العراقي. وفقاً لتقدير الـ DIA في بداية 2014، لم تكن قوات الأمن العراقية قادرة على التصدي للعنف المتزايد في البلاد، لعدة أسباب من بينها أنها لم تكن تملك وسائل استخباراتية كافية، وتجهيزات لوجستية وقدرات نوعية أخرى. لقد كانت القوات تفتقد التشكيل، وتعاني من عجز فى الطاقة البشرية والمعنويات المنخفضة، ومستوى التدريبات، والتجهيزات والتمويل الخاص بها كان متردي. أبدت قوات الأمن قدرة في تأمين مواقع معينة، واستخدام نقاط مراقبة واستعراض وجود في الشوارع، لكن هذه القدرات لم تكن كافية من أجل أن تقمع داعش وتدحر تهديدات داخلية أخرى، وقد وجدت صعوبة في التحرك في المناطق ذات الأغلبية السنية أو السكان المختلطين، وكانت عرضة للهجمات الإرهابية.
كان تقدير وزارة الخارجية في نفس الوقت بشأن قدرات قوات الأمن العراقية أقل إيجابية، ووفقاً لرأيها، فإن القوات قد حققت تقدماً ما في محاربة داعش. ولكن وفقاً لرأيها أيضاً، صعّب التدهور في سوريا كثيراً على القوات العراقية تأمين الحدود بين العراق وسوريا، ومنع عمليات متزايدة من تهريب السلاح بين البلدين.
لكن على الرغم من إدراك نقاط الضعف الكبرى هذه، فوجئت الإدارة الأمريكية، والمنظومة الأمنية، والأجهزة الاستخباراتية بالسقوط السريع للجيش العراقي. فالجيش وحده، من دون قوات الشرطة، كان أكبر عشرة أضعاف بل وأكثر من ذلك أيضاً من قوات داعش. لقد بُنيّ ودُرِّب من قبل الأمريكان طول عدة سنوات. ونظراً لأن أغلب رجاله كانوا من الشيعة، فقد كان التوقع بأن يبدي الجيش رغبة في الحرب وجدية بقدر معقول أمام التنظيم السني. الأمر الذي لم يحدث، ولم يُقدر بالشكل الصحيح خاصة أن الانشقاق الطائفي الحكومة العراقية، في المنظومة الحكومية وفي القوات الأمنية سيضرّ بعزيمة الجيش في الدفاع عن الدولة. إن تمزق الجيش خلال يومين وعدم قدرته على الدفاع على مدينة كبرى ورئيسية مثل الموصل لم يُؤخذ في الحسبان، وأثار علامات استفهام بشأن إن كان يمكن في المستقبل إعادة بناء هذه القوة. يُحتمل أن عاملين آخرين هما اللذان ساعدا في صعوبات التقدير بشأن قدرات الجيش العراقي. أولهما، أن مسئولية بنائه ملقاة على عاتق القيادة المركزية الأمريكية ولم تكن ملقاة على عاتق مسئولي الاستخبارات، وبالتالي لم يكن لدى المخابرات آليات كافية لتقدّر بالشكل الصحيح مستوى عزيمته فى الحرب. ثانيهما، أن إدارة أوباما لم تولى اهتماماً كافياً للتحذيرات بشأن قوات الأمن العراقية، لأنها قد أخرجت قواتها من العراق، ولم ترغب في الانجرار مجدداً إلى الوحل العراقي.
هناك سبب آخر لمفاجأة داعش، وهو السرعة التي عملت بها قوات التنظيم. حتى وإن تزايد اتضاح الفهم بين الأجهزة الاستخباراتية، والأمنية والسياسية في ربيع 2014 بأن داعش يفرض تهديداً متزايداً، فإنها لم ترصد قدرة التنظيم في تحريك قوات بسرعة كبيرة من سوريا إلى العراق والعكس، بحسب الحاجة. في الأجهزة الأمريكية يستغرق الأمر وقتاً طويلاً لفهم تأثير طمس الحدود بين سوريا والعراق، وحقيقة أن داعش من ناحيته قد جعل بالفعل شمال شرق سوريا وشمال غرب العراق وحدّة واحدة، تحرك فيها كما يحلو له، من خلال قدرة لا بأس بها لمباغتة خصمه. وقد أقرّ السكرتير الصحفى للبيت الأبيض في سبتمبر 2014 أن “الجميع قد فوجئ إزاء التمدد السريع لداعش من سوريا إلى خارج الحدود مع العراق، وقدرته على السيطرة على قطاعات كبرى في العراق قد انكشفت فجأة”.
خاتمة
يعد تقدير استقرار وقدرة ما تبقى من الأنظمة ودراسة تداعيات ونتائج الاضطرابات الإقليمية النابعة من تزعزع الأنظمة وسقوطها، قضايا من الصعب جداً على الأجهزة الاستخباراتية فك طلاسمها. فما بالك عندما تقع هذه الاضطرابات في عدة دول في نفس الوقت، تؤثر تطوراتها على بعضها البعض، وعندما ترسم أعراض جانبية منقطعة النظير، مثل ظهور داعش. بعض مشكلات التقدير والتنبؤ المتعلقة بتلك القضايا تنبع من أنه لا يوجد مصدر، أياً كان، بمقدوره أن يُعلِمنا وينبهنا بما سيحدث. إن المفاجأة الاستراتيجية المتعلقة باندلاع حرب، أو بوقوع عملية إرهابية استراتيجية من قبيل العملية الهجومية التي نفذتها القاعدة في الولايات المتحدة في سبتمبر 2011، هي أيضاً قضية يصعب جداً التنبؤ بها، وكثيرة هي الإخفاقات الاستخباراتية المقترنة بها. لكن على الأقل في جانب العدو هناك أشخاص يعلمون، بحكم منصبهم في دائرة اتخاذ القرار أو على مقربة منها، ما الذي سيحدث: أى هل، ومتى، وأين، وكيف ستندلع حرب، أو ستقع عملية إرهابية. في هذه الحالة، مشكلة المخابرات هي في الوصول إلى هؤلاء الأشخاص واستخلاص المعلومات التي تحذرهم في الموعد المناسب.
هذه بكل تأكيد مهمة صعبة ومعقدة وغالباً يخفقون فيها، لكن بشكل نظري وأحياناً أيضاً بشكل عملي – تعد تلك العملية عملية ممكنة.
وفى مقابل ذلك، ظاهرة الاضطرابات الإقليمية، واهتزازات الأنظمة، أو ظهور تنظيم مثل داعش ليست نتيجة قرار حاكم ما، أو مجموعة حكّام. إنها نتيجة عمليات عميقة، أحياناً تتم بشكل سري، قد تستمر لسنوات طويلة، على أساسها قد يحاول حكّام أن يبنوا ويوجهوا التطورات لصالح شؤونهم. وهذا يعني أن التنبؤ بتطور وتقدير تأثير ظواهر كهذه من قبل المخابرات لا يتركز على معلومات ثابتة بل على مؤشرات تدل على الفهم الذاتي للقوات الناشطة، بما فيها نواياها وقدراتها، على معرفة استراتيجيتهم، وعلى إدراك الأمزجة العامة في الجانب الآخر وأحيانًا أيضاً على الحدس والبداهة. إشكالية كهذه تزيد من خطر أن تكون التقديرات في قضايا مماثلة خاطئة.
إن ظهور داعش المفاجئ على مسرح الشرق الأوسط يرجع إلى خلفية مزدوجة:
من تعاظم ظاهرة التنظيمات الإرهابية الجهادية من نوع جديد، التي بدأت بظاهرة القاعدة وبالهجوم الإرهابي الذي نفذته في الولايات المتحدة عام 2011 – الذي هو أيضاً حدث كان متعلق بإخفاق تقدير استخباراتي، ومن الفراغ الحكومي الشاسع الذي تطور في العراق وفي سوريا، الذي خلق مرتعاً شاسعاً لازدهار التنظيمات الإسلامية المتطرفة، وعلى رأسها داعش. مما ذكرنا أعلاه، بدا من الواضح أن كلا من هاتين الخلفيتين تمثل قضية إشكالية ومن الصعب حلّ طلاسمها من قبل جهاز المخابرات – فما بالك عندما تندمجان وتغذيان بعضهما البعض. لقد تأثرت القدرات الكبرى لداعش بقدر كبير من سقوط الأنظمة والأجهزة العسكرية في العراق وفي سوريا، ونوايا التنظيم الجديد المتطور-التي تشكلت على أساس سلسلة الاعتبارات، والدوافع، والأهداف التي حددها لنفسه – لم تكن مُبنيّة بالقدر الكافي، على الأقل في بداية مشواره.
على الرغم من ذلك، علينا القول إن تقديرات رجال الأجهزة الاستخباراتية في الولايات المتحدة في قضية داعش لم تكن خاطئة جملة وتفصيلاً. فقد حذرت الأجهزة الاستخباراتية منذ 2013 من تزايد التهديد من جانب داعش، بل وأشارت إلى احتمالية – في الواقع بتردد ومن خلال تحفظات – أن يسعى التنظيم إلى السيطرة على أراض في سوريا وفي العراق. كانت الأجهزة الأمريكية تدرك صعوبات آداء الجيش العراقي. يُحتمل أيضاً، مثلما زعم سياسيون ورجال استخبارات، أن متخذي القرارات لم يولوا اهتماماً كافياً للتحذيرات الاستخباراتية التي تعلقت بداعش. لكن في نهاية المطاف، على المستوى الاستراتيجي، لم تكن النتيجة متوقعة – حيث تدفق عشرات الآلاف من المتطوعين إلى داعش، والسرعة التي تحرك بها التنظيم، وسقوط الجيش العراقي، ونجاح داعش في الاستيلاء على أراضي واسعة في سوريا والعراق للحصول على مصادر مالية وعسكرية وظهور تنظيمات تتبع داعش في دول أخرى منها مصر وليبيا.
هل كان من الممكن منع المفاجأة الاستراتيجية التي تكمن في انطلاقة داعش؟ إن تميّز التنظيم والصلة بينه وبين الاضطراب المفاجئ الذي اجتاح المنطقة لم يمنحا فرصة كبيرة للأجهزة الاستخباراتية الأمريكية في أن تقدّر بالشكل الصحيح كامل التطورات المصاحبة له. لكن على الأقل أحد الجوانب المتعلقة بهذه القضية تستحق إعادة النظر. لقد قيل مسبقاً أن الإخفاق في تقدير جدية وآداء الجيش العراقي كان عاملاً رئيسياً في مفاجأة داعش، بل أن تقدير قدرات قوات الأمن العراقية لم تكن من مسئولية المخابرات. المشكلة معروفة أيضاً من جوانب أخرى للتقدير الاستخباراتي: يتطلب من المخابرات أن تقدر قدرات جيش العدو، لكن قدرات العدو مرهونة بقدر كبير أيضاً بقدرات جانبنا، والمشكلة هي أن تقدير قدراتنا ليس من مسئولية المخابرات، التي غالباً لا تعرفها بالقدر الكافي. هذه الصعوبة يمكن خفضها عن طريق كسر الحواجز وتوسيع التعاون وتبادل المعلومات بين المخابرات والعناصر العملياتية، التي تعمل على مد الطرفين بمعلومات حيوية لا تتعلق بمجالات مسئوليتها.
معهد دراسات الأمن القومى الإسرائيلى
إعداد افرايم كام