إن تفجر الإرهاب الفلسطيني قبل نحو شهرين قد فاجأ بقدر ما الجمهور والقيادة في إسرائيل، بسبب تعاقب العمليات الإرهابية، وانتظامها واختيار -في أغلب الأحوال- أسلوب عملية الطعن. والدافع وراء اندلاع العمليات الإرهابية هو دافع مزدوج، قومي-ديني-اجتماعي، وكانت الشرارة لتفجّره هي العاطفة الدينية، التي ركّزت على النضال في سبيل الأقصى. وفي تلك الأثناء، لا يمكن تجاهل إلهام أفكار الجهاد الثورية لـ “الدولة الإسلامية”. يُحرّك الشبان المخربون شعورهم بالإحباط القومي، والاقتصادي، والاجتماعي، وكذلك إدراك أن كافة الطرق مسدودة أمامهم، وليس لديهم ما يرتكزون عليه وكذلك فقدان الثقة في كافة مستويات القيادة الفلسطينية. كل هذا، من قبيل الرغبة في حلّ التسوية القائمة، من دون الالتزام بنظام مستقبلي محدد.
تنبع بعض العمليات الإرهابية من الشعور بأنه “لا يوجد ما يخسرونه”، القيادة، سواء السلطة الفلسطينية أو حماس في غزة، منشغلة بنفسها وببقائها، نضيف إلى ذلك غياب الاهتمام الإقليمي، وخاصة من جانب مصر والأردن، لما يحدث في قطاع غزة وفي الضفة الغربية. المجتمع الدولي من جانبه قد فَقَد هو الآخر الاهتمام بالقضية الفلسطينية، في حين يُركِّز على محاربة “الدولة الإسلامية”، وخاصة بعد الهجمات الإرهابية التي وقعت في فرنسا. كل هذا يعظّم بين الفلسطينيين شعور بالإهمال واليأس.
يصعب على الكثيرين في الجمهور الإسرائيلي، وبينهم سياسيون وشخصيات عامة، مواجهة الواقع المستمر لإرهاب السكاكين، والدهس وإطلاق النار. وفي نفس الوقت، كثيرون من هؤلاء الذين يطالبون بالقيام بالكثير ضد الظاهرة، يعودون إلى صندوق الأدوات القديم والمعهود، هذا الصندوق الذي وُجد مؤثراً ومناسباً خلال سنوات الانتفاضة الثانية، حينما تعاملت إسرائيل مع الإرهاب المنظم. وفي مقابل ذلك، تفجر الإرهاب الحالي لا يشبه الانتفاضة الثانية؛ إنه يفتقد للتنظيم ويُحرَك من جانب أفراد، في أغلب الحوادث لا يعملون من خلال استخدام أسلحة نارية. الأغلبية الساحقة للسكان الفلسطينيين، سواء في أراضي السلطة الفلسطينية أو في القدس الشرقية، غير متورطة في الإرهاب (على الرغم من أن تفجر الإرهاب ماكينة “شعبية”)، وحتى وإن كان يُمكن رصد قدر من التعاطف مع منفذي العمليات الإرهاب، فهناك شك فى أنه يمكن وصف ذلك بأنه تأييد واسع من قبل الجمهور الفلسطيني للإرهاب. بالإضافة إلى ذلك، العمليات الإرهابية ورد الفعل الإسرائيلي يسيران ضد المصالح الحيوية لأغلب السكان الفلسطينيين ويفسدان حياتهم الطبيعية.
تشير حقيقة أن العديد من بين المخربين هم من الأطفال والفتيان إلى تفسخ البنية الاجتماعية والقيادية للمجتمع الفلسطيني وما له من آليات الردع التقليدية (الأسرة، منظومة التعليم، “شيوخ الطائفة” والقيادة السياسية). في ظل واقع ضعف البنى الاجتماعية والسياسية، وفي ظل الإلهام الديني السلفي-الجهادي وعلى خلفية غياب أفق سياسي، يُعد التحريض المنهجي والمؤسس للقيادة الفلسطينية أرضاً خصبة لتأثير وعدوى الرسائل المحفزة لتنفيذ عمليات إرهابية والمنتشرة على شبكات التواصل الاجتماعي. الشباب، الذين يعيشون الواقع الافتراضي على مواقع التواصل الاجتماعي، يستمدون فكرهم من إلهام أبطال الجيل الجديد – شباب أخذوا بسكين واعتقدوا أن طعن يهودي وقتله، حتى وإن كلفهم ذلك حياتهم، هو عمل سامي.
هذا النوع من الإرهاب، خاصة الممارس من قبل الفتيان والفتيات، تلقى مسحة أكثر ليونة من الإرهاب المنظم الذي يستخدم الأسلحة النارية. وبالتالي من السهل على القيادة الفلسطينية وصناع الرأي العام أن يدعموا إرهاب الشباب. يرى مسئولون في السلطة الفلسطينية ميزة في إرهاب الأفراد، الذي يفتقد لعنوان واضح، على أنه طريق لتحدي إسرائيل والحيلولة دون استخدامها لقوة عسكرية بقوة مفرطة ضد أجهزة السلطة الفلسطينية نفسها والجمهور الفلسطيني. تواصل حماس في غزة، وكذلك أيضاً فتح في الضفة الغربية، حملات تحريضية – خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي وفي المساجد – وفي تلك الأثناء يحاولون الترسيخ في الوعي القومي دورهم في السيناريوهات الحالية. تقف فتح وراء العمليات الإرهابية، المتصفة من قبلها على أنها “موجة انتفاضة ضد الإرهاب” ومعنية باستمرارها. حماس تستمتع بسبب نقل النقطة الجوهرية إلى منطقة الخليل، أساس قوتها في الضفة منذ سنوات، وهي تحاول منع التصعيد في قطاع غزة.
من أجل تشكيل رد فعّال على اندلاع الإرهاب، ينبغي أن نفهم قيود رد الفعل والتحرك الإسرائيلي. في هذا السياق، يجدر بنا أن نميز بين إجراءات وطرق من شأنها أن تساعد على الحدّ من هذه الظاهرة وأن تعطي رد سريع وفعال للسيطرة على المخربين، وبين إجراءات تهدف إلى إثبات أن إسرائيل تتصدى بحزم للإرهاب. إن نهاية الخطوات الحازمة والتفاخرية هي التصعيد، وتصاعد دافع الأفراد في تنفيذ عمليات إرهابية، على خلاف الإرهاب المنظم (بما في ذلك مشاركة تنظيم حركة فتح) وتضرر دافع الأجهزة الأمنية الفلسطينية في التصدي للإرهاب والعنف واستمرار التعاون مع عناصر الأمن الإسرائيلية.
إسرائيل لم تفلح في تكوين صندوق أدوات جديد في السنوات القليلة الماضية، يوافق اتجاه المرحلة، الذي سيركز على بذل جهود اقتصادية، وتأسيسية، واجتماعية، وتعليمية وتوعوية، عن طريق عدة أشياء منها الإعلام الجديد. واقع السنوات القليلة الماضية قد قمع نشأة وتطور قيادة فلسطينية محلية، منتبهة لمحن وضوائق السكان، شرعية وتمثل عنوانا للتفاهم مع إسرائيل وكبح العنف. في ظل غياب أدوات جديدة وعندما لا يوجد رد ملائم للمشكلة الاستراتيجية، تبرز العودة إلى استخدام أدوات الصندوق القديم، ولدى إسرائيل الدوافع لإعادة استخدام خطط فعّالة (مثل عملية “الدرع الواقي”) التي تشكلت كرد على وضع مغاير تماماً واستخدام تلك الخطط من شأنه أن يتضح بأنه صفقة خاسرة. الضغط الممارس على القيادة السياسية وعلى منظومة الأمن باتخاذ خطوة، بمفهوم القيام بعملية حازمة من شأنها أن تغير قواعد اللعبة، للإضرار بتروي القيادة السياسية، وتقويض ضبط النفس ورد الفعل المسئول الذي اتُخذ حتى الآن ودفعه إلى تبني منطق عملي لا يوافق جوهر الإرهاب الحالي.
يمكن ملاحظة إشارات أولية لذلك في قرار فحص كافة السيارات الفلسطينية في منطقة الخليل-بيت لحم، وبشكل نمطي أيضاً في باقي مناطق الضفة الغربية؛ وفي قرار سحب تصاريح العمل في إسرائيل من أقارب المخربين؛ ومنع دخول عمّال فلسطينيين إلى مستوطنات جوش عتسيون؛ وفي بحث خيار الفصل بين مرور سيارات الفلسطينيين ومرور سيارات الإسرائيليين في طرق الضفة الغربية؛ وفي تكثيف معدل اعتقالات فلسطينيين على أساس اشتباهات طفيفة فقط؛ وفي بحث خطوات أخرى مثل تطويق مناطق جغرافية ومدنية، مثل الخليل. إجراءات من هذا النوع من شأنها أن تنقل بؤر الإرهاب إلى أماكن أخرى (نابلس وجنين) وأن تضغط السكان غير المتورطين في الإرهاب، وخلق تأييد أكثر فعالية للإرهاب والعنف. بالإضافة إلى ذلك، هذه الخطوات ستثقل جداً على أجهزة الأمن الفلسطينية، التي تعتبر حتى الآن غير متورطة في الإرهاب وأيضا تكبح جماح العنف تجاه الإسرائيليين، وتتصدى للخلايا التنظيمات الإرهابية في أراضي السلطة الفلسطينية، وتمنع احتكاك السكان الفلسطينيين مع قوات الجيش الإسرائيلى وتواصل التنسيق الأمني مع أجهزة الأمن الإسرائيلية.
فرصة تغيير الواقع المتشكل هى وضع أفكار منافسة وجذّابة ضد التطرف القومي والديني المسيطر على قلوب الشباب في الضفة وفي غزة. لهذا الغرض، يجب استخدام شبكات التواصل الاجتماعي استخداماً صحيحاً وتوجيه اهتمام كبير للمنظومة التعليمية الفلسطينية ومحتويات الرسائل التي تبثها وسائل الإعلام المختلفة إلى الجمهور وخاصة الشباب، حتى من قبل القيادة الفلسطينية. في الواقع، في حالة فقدان القيادة الفلسطينية لشرعيتها في نظر الجمهور الفلسطيني واعتبارها بأنها غير مناسبة، فسيصعب عليها إقناع الجمهور الفلسطيني بترك العنف والإرهاب بل وستنضم إلى الأجواء الداعمة للإرهاب. إن القيادة الفلسطينية الآن على منحدر زلق، حيث إحباط ويأس الشباب الفلسطينيين موّجه أيضاً تجاهها والإرهاب مُعدّ لتحديها أيضاً. ومع ذلك، جهود إسرائيل في دحر الظاهرة يستدعي في المقام الأول حشد القيادة الفلسطينية، رغم وهنها والتشكك في أمر استعدادها وقدرتها على التأثير على الجمهور.
ومن أجل أن نقنع السلطة في التخلي الواضح عن الإرهاب والعنف وإعادة سيطرتها على الشارع والشباب، يلزمها أدوات جديد، منها إقامة مشاريع توظيف للشبان، وخطط تدريب مهني، وتعليم مفتوح وشق طريق لاندماج الشباب في النشاط السياسي. بمقدور إسرائيل أن تساعد السلطة الفلسطينية في تلك المجالات. تحتاج إسرائيل إلى أن تثبت مصداقية في استعدادها في العودة إلى طاولة المفاوضات والسعي إلى وضع دولتين لشعبين، وذلك بالتوازي مع تخلي السلطة الفلسطينية عن الإرهاب والعنف. وفي نفس الوقت، يجدر بإسرائيل أن تدفع بمجموعة إجراءات تنطوي على تحسين نسيج حياة السكان الفلسطينيين ورفاهيتهم. خطوة أخرى كمساهمة للسلطة الفلسطينية في التصدي للإرهاب هي توسيع حرية حركة أجهزة الأمن الفلسطينية بل وتعزيزها، وذلك بالتوازي مع تعزيز التنسيق الأمني.
طالما لم يطرأ تغيير على الواقع السياسي، يتطلب الأمر استعداد واسع من قبل قوات الأمن على الأرض، وتعزيز الحصانة واليقظة للمواطنين وجهد مكثف لإحباط العمليات الإرهابية. هذا، على أساس التقديرات التي تفيد بأننا بصدد واقع متواصل ومتقلب للإرهاب، يكمن فيه احتمال بالتصعيد، الذي لن يحدّ منه إلا ضبط النفس وتبني صندوق أدوات جديد.
معهد دراسات الأمن القومي
بقلم: كوبي ميخال، أودي ديكل