اسرائيل ليست جزءاً من الإضطرابات فى الشرق الأوسط، وهى تقريباً لاتتدخل فيها بشكل فعال، وسواء كان ذلك طوعاً أو عن كراهية بقوة الواقع، فقد فضلت السياسة الإسرائيلية حتى اليوم الوقوف على الحياد ومراقبة مايحدث من على الجانب. وبدون أى علاقة بالسؤال الجوهرى بشأن الحكمة الكامنة فى هذه السياسة، فإن تكاثر الأحداث يفرض على إسرائيل على الأقل أن تدرك وتستوعب بعمق الفرص والمخاطر التى تواجهها نتيجة لما يدور حولها. وهنا، فى منطقة تسجل لنفسها نماذج جديدة فى أحيان عديدة -من خلال التغيير المتواصل للتوازنات الدقيقة بين اللاعبين الكثر- سُجل فصل آخر من الملحمة المعقدة منذ الأسبوع الماضى مع التصادم العسكرى الأول بين تركيا وروسيا. وقد أبرز إسقاط الطائرة الروسية على يد الأتراك التناقضات والحقائق على المستوى الثنائى والدولى.
أولاً وقبل كل شئ، يدور الحديث هنا عن مواجهة بين بلدين، تقوم العلاقات بينهما على أساس خصومة تاريخية ولاتتعلق بالواقع الحالى المعاصر. عرف الروس والأتراك فيما مضى اشتباكات حربية كاملة، على خلفية الصراعات على السيطرة والتأثير فى المناطق الهامة، خاصة فى البلقان والبحر الأسود، فى حين ترى أنقرة فى موسكو تهديداً دائماً على مصالحها. سياسات الزعيمين الحاليين للدولتين تعمل على إثارة رواسب الماضى بينهما. يعرض رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين زعامة عدائية طموحة، تبرز رغبتهما فى تحويل بلديهما إلى دولتين عظمتين كما كان فى الماضى، وليس من قبيل الصدفة أن يلقبا بالسلطان والقيصر، إشارة إلى الشخصيتين اللتان يحاولان الظهور بها.
ثانياً، دخلت اعتبارات استراتيجية ومصالح سياسية فى العلاقات المشحونة بالأساس بين تركيا وروسيا، هذه الإعتبارات والمصالح متعلقة بالواقع المتبلور فى الشرق الأوسط وأوروبا. لاتتفق الدولتان فى رؤيتهما للأزمة السورية والحل المطلوب لها. فى حين تضع تركيا ابعاد الأسد هدفاً أعلى لها، ترى روسيا فى إبقائه شرطاً ضرورياً لدفع الإستقرار فى الدولة المحطمة وللحفاظ على مصالحها الإستراتيجية فى الشرق الأوسط. والدولتان تعارضان بشكل رسمى الدولة الإسلامية وترغبان فى إضعافها، لكن فى الواقع يستخدمون الدولة الإسلامية لنيل شرعية العمل فى سوريا تجاه المجهود الأهم بالنسبة لهما تركيا ضد الأكراد وروسيا ضد المعارضة، التى لاتنتمى ” للدولة الإسلامية” (الجزء الأكبر منها مدعوم من قبل تركيا). الأزمة الأوكرانية ووقوف الغرب ضد بوتين، وعضوية تركيا فى حلف الناتو، والمصالح المتضاربة للروس والأتراك فى سوريا والمعارضة الشديدة لتركيا للتدخل العسكرى الروسى فى سوريا، كل ذلك جعل الدولتان فى مسار التصادم.
تزيد المواجهة بين تركيا وروسيا بدون شك من عدم الإستقرار فى المنطقة، لأنه يقلل من فرص إنهاء الأزمة المتواصلة فى سوريا والمواجهة الناجحة لتنظيم الدولة الإسلامية. فى ضوء ذلك، هناك عدة سيناريوهات مستقبلية ممكنة فى المواجهة التركية الروسية، بدءاً من احتواء المواجهة والعودة إلى العلاقات الطبيعية بين البلدين، مروراً بمواجهة دبلوماسية واقتصادية (على غرار الأزمة التركية الإسرائيلية) بينهما، وانتهاء بتصعيد عسكرى (إطلاق صواريخ اس 400 أو اعتراض طائرة تركية، أو هجوم إلكترونى أو عملية عسكرية أوسع). من الصعب تقدير السيناريو الأكثر احتمالاً، لكن تبدو أن هناك فى تركيا إدراك بأن إسقاط الطائرة الروسية كان خطوة بعيدة وأعرب أردوغان عن استعداده للإعتذار(المتحفظ) ومن المتوقع أن يتعامل الجانبان بحذر من الآن فصاعداً. ومع ذلك وبغض النظر عن أى من تلك السيناريوهات، فإن إسرائيل يمكنها استخلاص عدة دروس ودلالات من ذلك.
الدرس التكتيكى
يدل إسقاط الطائرة الروسية فى المقام الأول أن هامش تفادى خطأ بنفس الحجم ضئيل، كان من الممكن للأتراك التروى وعدم إسقاط الطائرة الروسية. وفقاً للصور الرادارية التى تم نشرها يبدو أن الطائرة الروسية قد اخترقت بالفعل الأجواء التركية، لكن هذا كان توغلاً ضئيلاً (لفترة تقرب من 10-15 ثانية من الطيران)، والذى لم يكن هناك شك فى عدم وجود نية عدائية من وراءه تجاه تركيا. الطائرة لم يتم إسقاطها عن طريق الخطأ، لكن ليس من الواضح من الذى كانت لديه صلاحية التصديق النهائى على عملية الإطلاق. فى إسرائيل يجب التأكد من أن هذه الصلاحية يحتفظ بها المستوى العسكرى السياسى الأعلى.
يشير تسلسل الأحداث منذ قرار إسقاط الطائرة الروسية إلى الحاجة إلى ضمان السيطرة القصوى فى اتخاذ القرارات مع فرص التصعيد فى المواجهات التى من المحتمل أن تتدخل فيها إسرائيل فى المستقبل. فى الحقيقة فى إسرائيل دوائر مراقبة التصعيد فاعلة بصورة كافية ولايؤدى كل حدث حربى إلى مواجهة شاملة، لكن من الواجب عليها تطوير التفكير الإستراتيجى بشأن دوائر لمنع التصعيد وإنهاء المعارك، حتى بعد عملية تبادر بها إسرائيل أو ردة فعل هامة وضرورية.
وعلى مستوى التنسيق مع روسيا، فى أعقاب تدخلها العسكرى فى سوريا، يجب الحفاظ على التفاهم القائم الذى تم الوصول إليه فى أكتوبر 2015 بينها وبين إسرائيل وبحث ما إذا كان من المطلوب لتحسينه الآن، كدرس مستفاد من الواقعة التى وقعت على الحدود التركية.فضلا عن ذلك، يعمل نصب منظومات الدفاع الجوى من طراز اس 400 على تغيير قواعد اللعبة فى المجال الجوى الإسرائيلى أيضاً ويستلزم بلورة آلية صارمة لمنع التصادم الإسرائيلى الروسى. وأمام تركيا أيضاً –التى ليست هناك نقطة احتكاك لإسرائيل معها- يجب أن نستخلص الدروس الصحيحية. أثبتت تركيا أن يدها خفيفة على الزناد وأنها تلتزم بتهديداتها؛ قبل حوالى عامين حذرت تركيا من أنها سوف تقوم بضرب أى طائرة تخترق سيادتها. بالنظر إلى الأمام وعلى خلفية التصادمات السابقة (كالأسطول الذى كان قادماً إلى غزة عام 2010)، من المهم أن تذكر إسرائيل هذه القضية حيال مواجهة محتملة مع سفينة أو طائرة تركية فى المستقبل، تقوم بالإقتراب من الحدود الإسرائيلية.
الدرس الإستراتيجى
تثار هنا مسألة الإختيار الإسرائيلى؛ هل نقوم باتخاذ موقف فى الصراع الحالى بين تركيا وروسيا، وإذا كان الأمر كذلك، فإلى أى دولة من الصواب أن نقف؟ إسرائيل، باستثناء الهجمات المنسوبة إليها ضد وسائل قتالية متطورة منقولة من سوريا إلى حزب الله، فإنها لاتمثل لاعباً هاماً فى المواجهة الداخلية فى سوريا وبين العناصر الخارجية المتورطة فيها، وبالطبع ليست طرفاً فى الصراع التركى الروسى، لكن دراسة المصالح الإسرائيلية فى مقابل هذه المواجهة تظهر وضعاً معقداً.
فمن جهة، على المستوى الثنائى اسرائيل لديها مصلحة واضحة فى مساندة موسكو، حيث تقيم الدولتان علاقات جيدة، ثابتة ومستقرة، ونجحتا حتى الآن فى تجاوز مغامرة التواجد العسكرى الروسى فى سوريا. فى مقابل ذلك، العلاقات بين إسرائيل وتركيا بقيادة أردوغان متزعزعة ومنذ عام 2009 تتسم بالعداوة المتواصلة، التى يبدو من الصعب أن تنتهى مادام أردوغان مسيطر على اتخاذ القرارات فى تركيا. بل إن اختيار الجانب الروسى من الممكن أن يحمل معه ثماراً اقتصادية؛ فقد فرضت روسيا على تركيا عقوبات اقتصادية، وإسرائيل من جانبها يمكنها أن توفر لروسيا بديلاً عن تركيا فى مجالات الزراعة والسياحة وغيرها.
ومن جهة أخرى فإن اختيار تركيا، التى تعمل ضد المحور الراديكالى فى سوريا، سيناسب أكثر المنطق الإستراتيجى والمصالح الإسرائيلية الجوهرية. العمليات الروسية فى سوريا، تحت غطاء محاربة الدولة الإسلامية، تمنح فى الواقع شرعية دولية للأعداء الأكثر خطراً على إسرائيل، وهم إيران وحزب الله ونظام الأسد. فى هذا السياق، ثمة مصلحة مشتركة لإسرائيل وتركيا، تضم ابعاد الأسد، وإضعاف الهيمنة الإيرانية فى سوريا والإضرار الذى سينتج عن ذلك لحزب الله. إذا ألمحت تركيا بالفعل لاستعدادها للعمل سوياً مع إسرائيل ضد هذه التهديدات والتحديات وتقليل عدائها لإسرائيل، يمكن فى المقابل طرح قضايا أخرى يمكن أن تكون مثمرة لكلا الطرفين؛ مثل فتح السوق التركى امام الغاز الإسرائيلى (وهى الحاجة التى ستزيد مع انخفاض تزويد الغاز الروسى لتركيا)؛ وتحسين مشاركة إسرائيل فى أنشطة الناتو (التى تواجه صعوبات بعد المعارضة التركية لها)؛ وإعادة تركيا إلى دور اللاعب الإيجابى والهام فى العملية السياسية بين إسرائيل والفلسطينيين والعالم العربى ( الذى ينادى بخطوة مبدعة، تتجاوز الجمود).
وربما تشير المصالح المتضاربة لإسرائيل فى المواجهة التركية الروسية إلى الهدف الهام جداً الآن –حتى إزاء الولايات المتحدة وأوروبا- وهى صياغة وبلورة استراتيحية رائدة، تعمل فى نفس الوقت أو على مراحل قصيرة بينها، إلى اضعاف بل وإبعاد القوتين السلبيتين اللتان تعملان فى سوريا وهما نظام الأسد من جانب والدولة الإسلامية من جانب آخر.
المطلوب هو عمل مشترك للتوصل إلى حل للأزمة فى سوريا، من خلال دمج المجهود العسكرى والدبلوماسى والسياسى. والإبداع الإسرائيلى فى هذا السياق يجب أن يشير إلى غياب القدرة على إعادة توحيد سوريا من جديد، وكذلك إلى الحاجة إلى العمل على استقرارها عن طريق إعادة ترسيم الحدود، ربما فى إطار فيدرالى. فى أى حل يتم التوصل إليه، فإن الدرس الذى يستخلصه جميع المتورطين فى سوريا من المواجهة التركية الروسية، هو أنه لايجب السماح لعداوة بين طرفين أن يتم تبييضها عن طريق طرف ثالث، فى النسيج المعقد الناشئ فى الشرق الأوسط. الواقع يقول، أن الرغبة فى إضعاف الدولة الإسلامية لاتجيز تقوية نظام الأسد بغطاء إيرانى، ومن جانب آخر، لايجيز رفض التدخل الروسى الإيرانى فى سوريا إلى تقوية الدولة الإسلامية أو جبهة النصرة كبديل للأسد. التحدى هو، وفقاً لذلك، هو إيجاد الإستراتيجية الصحيحة والشاملة، المدعومة بالجدية والموارد والقوات البرية، لمحاربة الأسد والقوات السلفية الجهادية فى سوريا، وبذلك يتم بلورة واقع مستقر على الساحة.
معهد دراسات الأمن القومى–عاموس يدلين