فى الوقت الذى تشير فيه الأمور إلى الإنتفاضة العنيفة فى الضفة الغربية، يتنحى الوضع فى قطاع غزة جانباً، وتم نسيان مواطنى القطاع. لكن النقص المستمر فى الكهرباء استمر وتنقطع الكهرباء لمرات عديدة فى أغلب ساعات اليوم. كما أن المد بالمياه تم قطعه، والمياه التى تتدفق فى غالبيتها ليست صالحة للشرب. وتملحت أو تلوثت أغلب آبار المياه فى قطاع غزة، وازدهرت هناك أعمال توزيع المياه للمواطنين عن طريق شركات خاصة تقوم بتنقية المياه وتقدمها للمواطنين فى خزانات للإحتياجات المنزلية.

بالإضافة إلى ذلك، هناك نقص كبير فى الأجهزة والأدوية فى المستشفيات، ومعدل البطالة كبير. هناك من يتحدث عن 45% نسبة بطالة فى القطاع، ومنظمات حقوق الإنسان يقولون بيانات أخرى ويتحدثون عن 50% وأكثر، لكن لاحاجة فى بيانات دقيقة، فأغلب الشباب فى قطاع غزة والذين لايعملون فى دوائر الحكم الخاصة بحماس، يعانون من البطالة واليأس.

لكن المشكلة الكبرى هى أزمة السكن. اسعار الوحدات السكنية ارتفعت جداً بسبب سياسات الإمداد بالأسمنت الخاصة بإسرائيل، وإغلاق معبر رفح، وهدم الأنفاق بواسطة مصر وبالطبع الدمار الكبير الذى تعرضت له المنازل البنى التحتية فى غزة فى عملية الجرف الصامد (يوليو-أغسطس 2014).

فرضت إسرائيل قيوداً شديدة على إدخال مواد البناء إلى قطاع غزة خوفاً من أن تسيطر عليها حماس لعمليات بناء الأنفاق. وبدأ وضع القيود على نقل المواد الخام وخاصة الأسمنت والحديد مع فرض الحصار فى عام 2007، لكنه زاد فى أعقاب كشف مشروع بناء الأنفاق الخاصة بحماس. الخوف هنا معقول. يعمل الذراع العسكرى لحماس على إعادة تأهيل الأنفاق أيضاً فى هذه الأيام، ويدفع المواطنون مرة أخرى ثمن هذه القيود الشديدة. وفقاً لتقديرات منظمات حقوق الإنسان فى غزة التى تحدثت إليها مؤخراً، فإن هناك حالياً بين 150 إلى 200 ألف شاب وشابة بين أعمار 20-30 فأكثر، لايرغبون فى الزواج بسبب أزمة السكن. ليست هناك أى إمكانية للزواج والبدء فى حياة عائلية بدون وحدة سكنية، خاصة عندما تكون هذه الأزمة موجودة أيضاً لدى الوالدين.

قال لى صديق قديم فى غزة ” إننى أريد أن أزوج ابنى، لكن دون أن أبنى له وحدة سكنية، ليست هناك أى فرصة لزواجه، وكذا فى المستقبل المنظور لايبدو أن هناك تغيير سيحدث إلى الأفضل”.

حكى لى صديقى الغزاوى عن العملية الطويلة التى يجب أن يمر بها كل مواطن فى القطاع يفكر فى بناء منزل، أو أن يقوم بتوسيع منزله بغرفة أخرى أو أن يضيف وحدة سكنية لأحد أبناءه. هذا كل على افتراض أنه بالأساس فى مقدورة ان يقوم بذلك من الناحية الإقتصادية.

وللمفارقة، فإن الرقابة على جلب المواد الخام من إسرائيل، وخاصة الأسمنت، يتم بالتعاون غير المباشر بين حماس والسلطة الفلسطينية والأونروا وإسرائيل.

ومايحدث هو كالتالى: يجب التوجه إلى وزارة الإقتصاد التابعة لحماس والإبلاغ عن الرغبة فى بناء أو إصلاح منزل. من يقوم بذلك عليه أن يعلن أنه يريد التزود بمواد البناء من إسرائيل وخاصة الحديد والأسمنت. فى عملية التوجه هذه يقوم بدفع رسوم لوزارة الإقتصاد التابعة لحماس بحوالى 100 شيكل. فى المرحلة التالية يقوم فريق فحص من البلدية التى يراد البناء فيها بالذهاب إلى المكان، أو المنزل المراد توسيعه، بهدف القياس وتحديد كمية الأسمنت المطلوبة لمرحلة واحدة فقط من أعمال البناء المخطط لها. ويتم تحديد موقع البناء عن طريق الفريق بواسطة GPS وهى معلومات يتم إرسالها فيما بعد إلى إدارة التنسيق والإتصال فى الجيش الإسرائيلى لكى تكون هناك رقابة إسرائيلية وتحديد للمكان الذى ستتم فيه فى المستقبل عملية البناء. وفقاً لعمليات المراقبة هذه، والتى تم تطويرها منذ فرض الحصار على غزة وخاصة بعد كشف مشروع الأنفاق، يوجد لدى إسرائيل تسجيل دقيق نوعاً ما لكل حبة أسمنت منذ اللحظة التى يتم فيها نقلها من معبر كرم ابوسالم وحتى وصولها إلى مكان البناء المفترض فى غزة. بالإضافة إلى ذلك، تتمسك إسرائيل بالرقابة الكاملة على كمية الأسمنت والحديد المطلوبة للبناء بجودة معقولة.

فريق الفحص التابع لبلدية غزة يحصل رسوم خدمات بمبلغ 300 شيكل، ومن المفترض أن يقوموا بنقل الطلب والكمية الموصى بها للبناء لممثلى السلطة الفلسطينية برئاسة رجل فتح “ناصر السراج”، هؤلاء الممثلين يقيمون فى غزة وينسقون عملية التزويد بالأسمنت مع إسرائيل والأونروا.

لكن طلب التزويد بالمواد الخام هذا إذا تم التصديق عليه، مخصص فقط لمرحلة واحدة أولية فى عملية البناء، فى البداية يجب تقديم طلب لبناء أساسات المنزل، ومن أجل كل مرحلة إضافية من بناء المنزل ذاته أو عمليات المحارة أو التشطيبات، يجب المرور بهذه الإجراءات مرة أخرى. فى المجمل على الأقل لخمس أو ست مرات. ومن المفترض أن تستغرق كل مرحلة من مراحل البناء بين أسابيع وأشهر، وبعد كل مرحلة يجب على المواطن أن ينتظر.

ليس هناك أى دهشة فى أن ترتفع أسعار الوحدات السكنية. سعر إيجار شقة متوسطة فى القطاع يبدأ من 250 دولار، فى حين يكون الإيجار المتوسط لمن له حظ ولديه عمل، هو حوالى 2000 شيكل (حوالى 500 دولار) شهرياً بل وأقل.

فى أحيان عديدة كتب مؤخراً عن أزمة ويأس الشباب فى الضفة فى مناطق السلطة الفلسطينية، الذين بدأوا فى انتفاضة، لكن مقارنة بهؤلاء فإن وضع شباب القطاع أخطر وأصعب. تعلم المنظومة الأمنية الإسرائيلية جيداً بهذه الأزمة وتدرك أنه سيكون لها ثمن فادح فى نهاية الأمر.

كم من الوقت يمكن أن يصمد ” برميل المتفجرات الغزاوى” فى حالة عادية مريحة؟ يبدو أنه ليس هناك وقت كبير. الإتهام ليس ملقى فقط على إسرائيل، ففى اللعب على حياة مواطنى غزة هناك اتهامات ملقاة على العناصر السياسية المرتبطة بالقطاع وهى حماس وإسرائيل والسلطة الفلسطينية.

فى هذه الأثناء، كما هو معروف، أزمة مليون و800 ألف من مواطنى القطاع تقريباً لاتهم أحد. وهذا هو بالضبط الخطر الأكبر. أبوعلى شاهين أبو الأسرى الفلسطينيين وأحد قادة فتح الذى توفى قبل عامين، وصف لى ذات مرة خصائص قطاع غزة بشكل تصويرى، غزة على حد قوله كقدر من الحليب على النار، الحليب يبدو أبيضاً ونقياً وهادئاً، ثم فى لحظة واحدة يفور”.

شلومى ألدار