تزايد فى السنوات الأخيرة النقاش حول أسباب الوضع المتردى للمجتمعات العربية فى العصر الحديث، وذلك إزاء التحولات التى يمر بها العالم العربى. بشكل عام صاحبت هذه النقاشات مقارنات بين الحاضر البائس والماصى “المجيد” الذى عاشته المنطقة. ولكن يبدو أنه لا أحد يمكنه الإشارة إلى جذور المشكلة.

بالفعل بين القرن الثامن والثالث عشر وفى القرن السادس عشر شهد العالم الإسلامى ازدهاراً كبيراً فى المجالات الفنية والرياضة والعلوم والفلسفة والعمارة والطب. وهناك كثير من المثقفين العرب يستمتعون بالتفاخر بهذا الماضى ويغوصون فى شوق صامت. ولكن يميلون جميعاً إلى تجاهل الظروف التى بلورت قاعدة للتقدم فى تلك الأيام.

الأكثر إثارة للسخرية من بين أولئك الذين يمدحون أمجاد الماضى هم أولئك المنتمين إلى التيارات الإسلامية. إنهم يميلون إلى نسيان من دفع العالم العربى إلى الأمام. كان رعاة العلم فى عصر هارون الرشيد (786-809) هم الوزراء البرامكة، وهى أسرة من أصل بوذى، وساند البرامكة العلماء وأقاموا أول مصنع للورق فى بغداد، وبذلك مهدوا الطريق نحو إقامة “بيت الحكمة” فى عصر ابنه الرشيد، الخليفة المأمون. وقد كان ذلك بمثابة أكاديمية تم العمل فيها على الترجمة والتأليف فى الأدب والعلوم والفلسفة.

حول المأمون (786-833) العلوم العقلية – مذهب المعتزلة- إلى دين للدولة.هذا المذهب تأثر بالفلسفة اليونانية والفكر العقلانى. وقد كان على المرشحين لمناصب فى السلطة إثبات التزامهم بالفكر العقلانى. وتظهر مراجعة قائمة العلماء والمفكرين فى الفترة التى تعتبر الأكثر ازدهاراً فى الحضارة الإسلامية، أن غالبيتهم ليسوا من أصل عربى، وأن غالبية المسلمين منهم اعتبروا كفاراً من قبل الأصولية الإسلامية بل وتم اضطهادهم.

قبل أن يتفاخر الإسلاميون بأمجاد الماضى، يجب أن نذكر لهم بأن الإزدهار العلمى والثقافى آنذاك قد حدث بفضل التحرر من قيود الإسلام الأصولى المحافظ. ولم يكن الجمود الدينى هو مادفع المجتمع العربى إلى الأمام، بل تبنى المذهب العقلانى. العالم العربى اليوم يعيش مرحلة متقدمة من نفس الجمود الدينى، والذى أدى إلى إغراق الثقافة العربية والإسلامية آنذاك.

هناك سبب آخر لعجز العالم العربى عن التحرر من قيوده وهو غياب آلية للإصلاح الذاتى، ومحاسبة النفس، فى المجتمعات العربية القبلية من جانب والإسلامية من جانب آخر. وليس هناك فى التراث التشريعى المنسوب إلى النبى محمد ولو لمرة واحدة مايطلب من الفرد محاسبة نفسه.

فى ظل غياب آلية لمحاسبة النفس فى الثقافة العربية القبلية يبقى الفرد فى حالة ميئوس منها. يحدث أن زعيم قبيلة أو قائد دولة –حتى بعد قتل حوالى 300 ألف مواطن والتسبب فى التدمير الكامل للدولة التى يمثلها، يواصل النوم فى هدوء والمطالبة بالحكم.

ليس هناك من يتحلى بالشجاعة ويشير إلى جذور السوء فى أماكننا. فى العودة إلى الدين ليست هناك أى بشارة لمستقبل المنطقة ومستقبل مواطنيها، بل على العكس تماماً، فهو يمثل سيراً إلى الوراء فى النفق المظلم. النور يوجد فى الإتجاه المعاكس وهو يستمر فى الإبتعاد. هذا الواقع المتردى نما إلينا من حولنا بكامل قبحه فى السنوات الأخيرة.

سلمان مصالحة-هارتس