في العالم الديبلوماسي المهذب، مر وقت كاف منذ أن اختفت رائحة البارود. مر وقت كاف منذ أن عولج الجرحى، وعُثر على الجثث وأرسلت للدفن في أرض الوطن. فجر يوم جديد على وشك أن يبزغ في تاريخ العلاقات الإسرائيلية-التركية. “إنه تحالف مهم وتاريخي” – كُتب وسيُكتب عنه فيض من الكلمات. من بين جملة أمور أخرى، تنُشر لقراء الصحف مطالب كل طرف، ومدى الاستجابة لها. في مؤخرة القائمة، “طلب” تركي بإنهاء الحصار على غزة. يرمزون إلى أن إسرائيل تحت مسمي استئناف العلاقات، ستميل للموافقة على بعض التسهيلات. وحينها سيتدفق الغاز، وسيقلع السائحون من المطارات، وستستمر، وستتعمق، الفجوة بين سكان غزة والعالم من حولهم.

حينما سيطرت حركة حماس على قطاع غزة بالقوة، فرضت إسرائيل الحصار، الذي استمر في تقييد الحركة تصاعدياً إلى أن وصلت إلى منع، شبه تام، لتنقل الأفراد والبضائع من وإلى القطاع. كانت وجهة النظر الإسرائيلية إنه يجب السماح لقطاع غزة فقط بشراء ودخول الحد الأدنى المطلوب للحفاظ على بقاء قاطنيه، وقطع الطريق تماماً أمام توجه منتجيها إلى الأسواق الطبيعية في إسرائيل والضفة الغربية، وإبعاد من يتضح أنه من قاطني غزة، بحسب ما يحمله ويدل على ذلك (منذ عام 2000 لم تصادق إسرائيل على تحديثات التوثيق الفلسطيني التي قدمتها مؤسسة “معاً”).

كان الهدف هو خلق ضغط يضعف النظام ويقلل من حدة مواقفه ويضر بقدراته. كانت الفرضية هي أنه ليس لإسرائيل أية التزامات تجاه قاطني قطاع غزة على أية حال. ثبت فشل تلك السياسة مراراً وتكراراً، في جولات الحروب الدامية، التي زادت ضراوتها أكثر وأكثر. زاد مدى الصواريخ التي تُطلق من قطاع غزة، نشأ الأطفال في مستوطنات الجنوب على واقع كارثي، وشهد أطفال غزة ما لا يجب أن يشهده أي طفل في أي مكان من موت وخراب وهلع.

وفي كل مرة يتوارى العنف، تُذكر “تسهيلات” في المخصصات، في الحصص، في ساعات عمل المعابر، في التفاصيل الصغيرة في السيطرة الإسرائيلية على الحياة اليومية في غزة. لم تتغير السياسات حقاً. حتى بعد عملية السيطرة على سفينة “مرمرة” في نهاية مايو 2010، التي قتل خلالها تسعة من المشاركين في الاسطول وأصيب جنود إسرائيليين ومتظاهرين من الذين كانوا على ظهر السفينة، ذُكرت التسهيلات: مسموح بدخول أي شيء إلى غزة، باستثناء قائمة من المواد المصنفة على أنها ثنائية الاستخدام. توسعت تلك القائمة وتطورت منذ ذلك الحين، وتضم تفاصيل مثل زيت الخروع والألواح الخشبية التي سمكها أقل من سنتيمتر. أثقلت الحياة وجمّدت العديد من المبادرات التي كانت تبشر بنمو اقتصادي، وتقلل من نسب البطالة التجارية، وتخفف من وطأة حالة اليأس المنتشرة.

بعد عملية الجرف الصامد “بعد ما يزيد عن 2200 قتيل و11000 جريح، وخراب ضخم في البينة التحتية والمباني-تم الإعلان مرة أخرى عن تغيير. استوعبت إسرائيل أن الحرب الاقتصادية قد فشلت، وأنها لن تضمن الأمن هنا ولن تُخضع النظام هناك. أدلى رئيس هيئة الأركان وضباطه، ووزير الدفاع ورئيس الوزراء بتصريحات مؤيدة لإعمار غزة، وسمحوا بتسويق بضائع معينة من غزة في الضفة وإسرائيل، وسمحوا بشراء ودخول مواد بناء إلى القطاع تحت حراسة مشددة. أي أنهم أعلنوا عن تسهيلات أخرى. إذا كان الأمر كذلك، لماذا لا يسود التفاؤل في المنطقة، رغم وجود بدايات جديدة وأفق مبشر؛ كيف يدرك كل طفل صغير أنه قد بدأ العد التنازلي لبداية جولة القتال القادمة؟

لأن ما نحن بحاجة إليه، ليس “تسهيلات” إضافية، لا كإسرائيليين ولا فلسطينيين ولا سكان المناطق الإسرائيلية الذين يتواجدون في مدى الصواريخ، ولا لسكان غزة الـ 1.8 مليون نسمة، الذين لا يدركون معنى وجود الكهرباء طوال اليوم، ولا يدركون معنى أن تكون المياه في الصنبور صالحة للشرب، ولا يدركون معنى أنه يمكنهم زيارة الوالدة التي توجد على مسافة ساعتين سفر، ولا يدركون معنى أن يأسسوا مشروع تجاري وأن يتعلموا ويتميزوا ويساهموا في المجتمع.

الحل لمستقبل المنطقة حل سياسي، وهذا أمر جلي، لكن حتى يتم الوصول إليه، فإن ملايين البشر يعيشون هنا بدون الحقوق الأساسية التي يستحقها أي إنسان، وليس من حق أي إنسان أن يتعامل معهم على أنهم نقود رمزية في اللعبة الديبلوماسية. تنشأ أبسط الحقوق الأساسية من القدرة على الحركة للسعي إلى الرزق والدراسة والتنزه، وهي تؤدي إلى حياة تستحق الحفاظ عليها.

تستطيع إسرائيل أن تستغل الدعم التركي من أجل تطبيق التفاهمات التي تسللت إلى وعي متخذي القرارات في عملية تغيير حقيقي، من خلال الفصل بين الضروريات الأمنية والالتزامات الانسانية والقانونية بتوفير حياة لمن هم خاضعون لحكم فردي ومحدد على أية حال. ستكون هناك فائدة على المدى البعيد لفك جمود العلاقات مع تركيا، إذا ما طرحت معها فرصة في العيش الكريم والأكثر آمنًا لنا جميعًا.

أمير روتيمهارتس