في عام 2015 استندت الهجرة إلى مصادرها وألوانها المتنوعة – لاجئون من مناطق حرب أو باحثون عن عمل – كقضية متصدرة في الخطاب العام في الديموقراطيات الغربية. وقد ركب المرشح الجمهوري المتصدر في السباق الرئاسي للولايات المتحدة، “دونالد ترامب”، موجات العداوة مع الهجرة. في السويد، حقق حزب الشعب الذي يطالب بتحديد حجم الهجرة انتصاراً كاسحاً. هذه القضية ركزّت النقاش أيضاً فى الانتخابات الإقليمية، التي أُجريت مؤخراً في فرنسا – لم يمر كثيراً على العملية الإرهابية المزدوجة، التي نُفذت في باريس. فرنسا نفسها، تعتبر من بين دول الاتحاد الأوروبي، التي يتعذر عليها تشكيل سياسة موحدة لمواجهة هذه القضية، التي تواجه مبادئ الطابع القومي بالقيم البشرية.

غالباً، في الدول الغربية، كلما ازدادت أحجام الهجرة كلما سلكت الأجهزة السياسية، تبعاً للرأي العام، اتجاهاً أكثر محافظة. الخوف من تغيير طابع دول عقب احجام الهجرة الكبيرة هو الذي يغذي هذا التوجه. يمكن أن تشكل تصريحات المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” بشأن رغبتها في “تقليل على نحو متطرف” عدد المهاجرين، الذين يصلون ألمانيا تحوّلاً وشيكاً في سياسة الهجرة الألمانية بعدما دخل إلى الدولة خلال 2015 نحو مليون مهاجر.

من ناحية إسرائيل، من المعروف أن لقضية الهجرة مغزى استراتيجي ولديها تداعيات واسعة على الأمن القومي، بمفهومه الواسع. إسرائيل، التي تتميز بنمط حياة غربي ومستوى معيشة عالي نسبياً، محاطة بدول ضعيفة. وفي النهاية، هي الدولة الغربية الوحيدة التي لديها حدود برية مع أفريقيا، “مصدّرة الهجرة” الكبرى للغرب. كذلك تتعرض لطوفان من تسلل مقيمين غير شرعيين فلسطينيين.

وفي محاولة لبحث خيارات الرد على التحدي، يجدر بنا أن نفهم، أن حركات الهجرة تأقلم نفسها مع سياسة دول الهدف المختلفة. كلما “لانت” هذه السياسة، انحرف تيار من المهاجرين إليها وازداد، والعكس صحيح. وهناك نماذج مضادة تجسد هذه المعادلة سواء السويد أو استراليا.

اتخذت السويد لسنوات طويلة سياسة ليبرالية بخصوص الهجرة، حيث تضمنت شروط رفاهية وتكاملية مريحة وبالتالي انجذب إليها الكثيرون. هذا إلى جانب، إقامة دائمة تُمنح في السويد للاجئين أو لفاقدي الجنسية بعد أربع سنوات، ومنح الجنسية بعد إقامة تدوم بضع سنوات. لا عجب، أن هذه الشروط قد شجّعت الهجرة إلى هذه الدولة.

بالمقارنة بباقي دول الاتحاد الأوروبي، وافقت السويد على أكبر نسبة من طلبات اللجوء (77% من المطالبين). وفي عام 2014 بلغ عدد طالبي اللجوء أكثر من 80 ألف – وهي هجرة قد زادت بنسبة 50% عن العام الماضي، حينها أعلنت السويد، أنها ستقدم إقامة دائمة للمهاجرين من سوريا. وفي 2015 صادقت السويد على استقبال حوالي 190 ألف مهاجر. وبالتالي، أصبحت في السنوات القليلة الماضية بعملية سريعة للغاية، وشرعية، من دولة متجانسة إلى دولة ذات ثقافات متعددة. وقد انتقدت السويد أيضاً دول أخرى في أوروبا بسبب نهجها الصارم تجاه الهجرة.

ومع ذلك، على خلفية الموجة العارمة المتزايدة من المهاجرين، عبر جسر “أوريسند” الذي يصل بين السويد والدنمارك وأمام مشهد الكثيرين النائمين في الخيام في ميادين المدن، يبرز في السويد تغيير في الوضع العام بالنسبة لقضية الهجرة. بدأت الحكومة تتحرك لتغيير السياسة. ومن ضمن الخطوات التي تم اتخاذها، تم الدفع بعملية تشريعية تمكّن غلق الجسر وتم تكثيف تعيين أشخاص لمهام تفتيش جوازات السفر على الحدود. يبدو أن هذه الخطوات قد قلّصت تيار الهجرة. رئيس الحكومة، الذي قال قبل عدة أشهر: “أوروبا خاصتي لا تبني سياج وأسوار”، صرّح مؤخراً، أن “السويد غير قادرة على التعامل مع عدد كبير من طلبات اللجوء”.

تصدّر لنا استراليا نموذجاً مغايراً، حيث تعدّ في الأساس دولة هجرة، لكن سياستها حيال هذه القضية صارمة وتتميز بطابع انتقائى في القادمين إليها.

تمتلك استراليا مميزات اقتصادية واجتماعية، لكن عدد سكانها ليس كبير، وبالتالي يتملكها خوف من تغييرات جذرية في الطابع القومي والثقافي للمجتمع.

في يوليو 2013 وقعت استراليا وبابوا غينيا الجديدة على اتفاق بشأن “إعادة التوطين” (حل PNG)، الذي بموجبه أُرسل إلى بابوا غينيا الجديدة مهاجرين على افتراض أن يكونوا مستحقين للحصول على مكانة اللجوء، سيظلون في منشأة، ويتم إعادتهم إلى موطنهم الأصلي أو يُنتقلون إلى دولة ثالثة. وكما هو متوقع، انتقدت منظمات حقوق الإنسان هذه السياسة. وسيُذكر ان سياسة الـ PNG اتُخذت بعد سنوات وصل فيها مهاجرون كُثر إلى استراليا. قبل ذلك، في مطلع الألفية الحالية، اتُخذت سياسة  Pacific Solution التي في إطارها أُرسل المهاجرين إلى “التقييم” في منشآت في جزر ناورو ومانوس. هذه السياسة، التي ردعت مهاجرين وقلصت عددهم، تم التخلي عنها عام 2007 (إثر التورات السياسية-الداخلية) وازداد تيار مطالبي اللجوء المشروع في استراليا مجدداً.

إسرائيل وتحدي التسلل

إبان العقد الماضي فرضت حركة هجرة واسعة النطاق من أفريقيا، لاسيما من إريتريا والسودان تحدياً أمام إسرائيل. فقد اخترق آلاف المتسللين إلى إسرائيل من حدود سيناء – أغلبهم مهاجرين من أجل البحث عن عمل. تتصف السودان بأنها “دولة عدو” ووضع حقوق الإنسان في إريتريا سيء للغاية، وبالتالي لم يتم السماح باتخاذ إجراء التهجير القسري للمتسللين إلى مواطنهم الأصلية. استند التعامل مع الظاهرة إلى غلق الحدود، وردع وتشجيع طوعى. بالإضافة إلى ذلك، وُقعت اتفاقات مع دول ثالثة في افريقيا، تسمح بتهجير المتسللين إليها، بأحجام محدودة. ونؤكد على نقطة أنه في السنوات الأولى لم تتخذ إسرائيل خطوات لصدّ الظاهرة، ما قد أدى إلى زيادة عدد الهجرة. وبعد تأخر دام سنوات تقرر إقامة الجدار العازل على الحدود الإسرائيلية-المصرية.

لكن فور الانتهاء من النقاش حيال هذا الأمر، والذي دار في محكمة العدل العليا في مطلع شهر إبريل 2014، انخفض عدد النازحين، واستمر العدد في الانخفاض بعد دحض القانون من قبل المحكمة في سبتمبر. ولاحقاً تم سن قانون ضعيف للغاية، والذي قلّص مدة العقوبة إلى ثلاثة أشهر – شهر واحد إضافي على الفترة المحددة قبل ذلك في قانون الدخول إلى إسرائيل. إلا أن محكمة العدل العليا تدخلت في عام 2015 للمرة الثالثة على التوالي، وتم رفض مدة المكوث في سجن “حولوت”. ونتيجة لذلك استمر تسلل الهاربين إلى إسرائيل في النصف الثاني من عام 2015، ولكن في حدود معقولة حتى هذه اللحظة.

السؤال هو لماذا طوال هذا العام 2016 ستزيد معدلات التسلل إلى إسرائيل؛ في ظل غياب وسائل الردع، حيث أن لمصر وسياستها أثر فى هذا الشأن. ويجب الأخذ في الاعتبار العلاقة المبررة بين الأدوات المتبعة من قبل الدولة (أو غير المتبعة) وبين حجم معدلات التسلل إليها. سياسة حازمة هي كالسد، بينما غياب هذه السياسة يميل إلى تشجيع التسلل بمعدلات بسيطة للغاية في البداية، ولا تنفك إلا أن تزيد مع الوقت.

التسلل من جهة شبه جزيرة سيناء ليس تحدي الهجرة الوحيد الماثل أمام إسرائيل. قبل عقد ونصف العقد قطعت إسرائيل الطريق نحو موجة كبيرة من تسلل الفلسطينيين إليها على أساس “لم شمل الأسر” مع عرب 48. وأثناء الانتفاضة الثانية حضر المشهد عوامل أمنية؛ لأن العديد من الأضرار لحقت مواطنين إسرائيليين وكانت على يد فلسطينيين دخلوا إلى الأراضي الإسرائيلية متسللين. عقب هذا الأمر قررت إسرائيل منع لم شمل الأسر هذا وبمبادرة حكومية، سن الكنيست قانون منع لم شمل الأسر، على الأقل تم وضع الأسيجة، واجتاز القانون اختبار محكمة العدل العليا، بقوة الرأي العام اليهودي.

تحديات أخرى، على إسرائيل أن تنتبه لها وهي أن المواطنين غير الشرعيين وإمكانية ثورة غير عسكرية على حدودها. لا تملك إسرائيل السيطرة التامة على القادمين من مناطق ترجع إلى السلطة الفلسطينية، طبقا لتقديرات الشاباك، حوالي خمسون ألفاً هم من المواطنين غير الشرعيين. وعدد الجرائم الإرهابية التي ارتكبوها في الآونة الأخيرة ليست بالقليلة، ولا يمكن وقف هذه الظاهرة في ظل غياب تحرك فعال حول هذا الشأن. صحيح أنها احتوت الغضب عند السوريين من أصل فلسطيني على حدود إسرائيل أثناء نكسة يونيو 2011، دون ذلك إسرائيل لم تمر بموجة تسلل كبيرة على حدود الدول المجاورة، لكن يجب أن تكون جاهزة لسيناريو مماثل. إسرائيل من شأنها أن تصطدم بموجة تسلل إما من دولة عدوة مثل سوريا، أو دولة وقعت اتفاقية سلام معها مثل الأردن. الاهتزازات التي تصيب الدول في المنطقة تزيد فرص المخاطر من هذا النوع، والتي تحمل معها تداعيات سياسية وأمنية.

يجب على إسرائيل أن تستوعب أن مستوى المعيشة بها واقترابها للأزمة التي تحيط الشرق الأوسط وأفريقيا تعرضها لخطر دائم من هجرة غير شرعية. وفي ضوء ذلك، على إسرائيل أن تتخذ سياسة واضحة وألا تنزلق إلى التحرك غير الفعال أمام التحدي. الفشل الأوروبي في التعامل مع الهجرة الواسعة هو جرس إنذار. كذلك إسرائيل يتماثل أمامها كارثة مزمنة – بين الإصرار على طابعها كدولة قومية للشعب اليهودي وبين الانزلاق إلى مصطلح “دولة كل متسلليها”. معهد دراسات الأمن القومي

بقلم: جدعون ساعر