يوماً ما سينتهى الإحتلال. وهذا وششيك الحدوث جداً، وحين يحدث ذلك سيتضح فجأة ان الجميع كانوا ضده، وسيتضح أن السياسيين قد عملوا على إنهاءه، وأن الصحفيين قد سعوا دون كلل لكشف ظلمه، وأن المؤسسات الثقافية قد أدانته بشجاعة، وأن السلك الأكاديمى الإسرائيلى كان مركزاً للمعارضة الشديدة التى مثلت ظهيراً فكرياً وقيمياً للصراع، باختصار جميعهم كانوا معارضين.

يوماً ما سينتهى الإحتلال، لأن مثل هذه الأنظمة لاتستطيع الصمود، ويجب أن تسقط لأن الأنظمة القمعية غير مستقرة. فى الحقيقة من الصعب أن نرى ذلك الآن، لأن نظرتنا الواقعية تقضى بأنه يجب أن نرى ملامح مبشرة لمثل هذا التغيير بعيد المدى، وهذه الملامح المبشرة لانراها، لكن الحقيقة هى ان الإجراءات التاريخية لاتقع بالضرورة بشكل مباشر. الأرضية التى يقف عليها الإحتلال ربما تبدو ثابتة. لكن بالطبع من الممكن أن تكون الأرضية هناك صدوع فى القشرة التى تلى الأرضية مباشرة، وتنشأ شقوقاً تأخذ فى الإتساع. ومن يقف عليها لايراها، وتبدو له الأرض ثابتة أكثر من أى وقت. وحينئذ –ودون سابق إنذار- ستتسع الشقوق وستنهار الأرض كالشق الذى شكل فجوة فى شاطئ البحر الميت.

يوماً ما سينتهى الإحتلال كما هزم نظام التفرقة العنصرية فى جنوب أفريقيا، وكما تم هدم سور برلين، دون أن يتوقع أحد مثل هذه الأحداث، حتى وقت قريب قبل وقوعها.

وحينئذ، حينما ينتهى الإحتلال سنكتشف أنه لم يكن هناك مئات الإسرائيليين المتظاهرين فى بلعين ولكن عشرات الآلاف. وأنهم جميعاً كانوا من مؤيدى “بتسيلم”. هكذا يكون الأمر فى الذاكرة السيئة، فى أفضل الأحوال مكبوت، وفى أسوأها تحل محله ذاكرة خرافية.

وحينئذ، حينما ينتهى الإحتلال، هناك شك فى أن نقيم لجان الحقيقة والمصالحة، لأنه ليس لدينا تقليد الجلد العلنى على الخطأ، إننا ننحدر إلى ثقافة نعتذر فيها ونعترف فيها يوماً واحداً كل عام، وحين نقوم بذلك لايكون علناً. لكن على الرغم من ذلك كله، فإنه عندما ينتهى الإحتلال ويستوجب الأمر علينا إصلاح المجتمع الإسرائيلى، لن نستطيع القيام بذلك دون الإعتراف بخطايا الماضى، ودون أن نتعلم منها. تخبرنا الأيام الماضية إلى أى مدى ستكون أعمال الإصلاح كثيرة، وأى معالجة عميقة تستلزم تلك الندبات. وحينئذ حين نقوم بصياغة الميثاق الإجتماعى الإسرائيلى من جديد، سيكون علينا أن ننظر بصدق إلى مافعلنا للآخرين ولأنفسنا وأن ندرك مايجدر بنا كمجتمع إلى أن نصل إليه. دون أن ندرس الجريمة التى ارتكبناها بحق ملايين الناس على مدى أكثر من جيل، دون أن نعى العنصرية والفاشية والمكارثية التى تفشت فينا، لن نستطيع صياغة قواعد لمنع ذلك فى المستقبل.

هذه الأيام صعبة. فى اليمين هناك حماس متقد لإخفاء أى نقد على سياسات الحكومة، للتأكد من أن تحول الإحتلال الإستعمارى إلى حقيقة مطلقة ولايمكن تغييرها.هذا الحماس أدى فى هذه الفترة إلى هجوم مزدوج ومتناسق، يشمل استخدام الجواسيس، والتحريض الفظ، ضد جيوب المعارضة الأخيرة للإحتلال وهى منظمات المجتمع المدنى، فالباقون جميعاً تم احتلالهم وإخراسهم أو لاذوا بالفرار. اتضح فجأة انه وحيد القرن ليس فقط لا يتعرض لخطر الإنقراض، لكنه حيوان يتكاثر وتزداد أعداده ويملأ الأرض. لقد بقيت فقط الملاجئ العنيدة لــ ” كسر الصمت” و “بتسيلم” و “يش دين” و ” السلام الآن” وأعضاؤهم.من الصعب إغفال الإعتداءات التى تتم بحق هذه الملاجئ. ومن الصعب أن لانرى أسلوب القتال، والذى تدمر فيه القوة التى تقوم بالهجوم كل الموروثات القيمية لدولتنا فى طريقها، ومن الصعب أن لانكون قلقين.

لكن فى هذه الأيام على وجه الخصوص، يجب علينا أن نعترف بأن الهجوم الوحشى يعلمنا أن اليمين على مايبدو يعرف شيئاً ما لانعرفه نحن. وأن لديهم سبب للقلق منا. يجب أن ندرك أن قوة المنظمات التى تعمل على إنهاء الإحتلال ومؤيديها كبيرة جداً عما يبدو لنا. والسخرية الإنهزامية ليست مبررة. القوة الكبيرة المفترسة العنيفة التى تمارس ضدنا يخبر شيئاً جيداً عنا. بالنظر إلى أنه فى هذه الأثناء، اليمين العميق، واليمين المركزى وحلفائهم فى الوسط المسكين لاتكسرهم استطلاعات الرأى، فما هو مصدر الخوف، وبالتوازى مع ذلك، ماهو سر قوتنا؟.

الإجابة على ذلك بسيطة. هناك العديد من القوى التى تحرك العالم. ونحن نرى يومياً القوى السياسة والإقتصادية والعسكرية. لكن هناك أيضاً قوى مرئية قليلاً، والتى تكون طريقة عملها أقل وضوحاً. أحد هذه القوى هى الفكرة، الفكرة التى تقول بأن كل البشر سواء وأنهم يستحقون جميعاً الحقوق لكونهم بشراً.

هذه الفكرة مسئولة عن التحولات الكبرى والهامة فى التاريخ. هذه الفكرة تعمل كالمادة المظلمة فى الكون، تعمل فى هدوء. وهى تدفعنا إلى جانب المعارضين للإحتلال، إلى إنهاء الإحتلال والتغيير الجوهرى فى الشكل الذى يعمل به المجتمع الإسرائيلى. هذه الفكرة تمنح المنظمات الصغيرة والضعيفة على مايبدو قوة غير مفسرة، وستؤدى إلى إنهاء الإحتلال.

إننى لا أزعم أن الإحتلال سوف ينتهى غداً، إننى لا أعلم. من الممكن أن يتم سفك المزيد من الدماء فى الطريق، إننى أعلم فقط أن الصراع لن ينتهى، لا الصراع من أجل إنهاء الإحتلال ولا الصراع على شخصية المجتمع الإسرائيلى.

هارتس –ميخال سفاراد

** الكاتب هو المستشار القانونى لبعض المنظمات الوارد ذكرها فى المقال.