لقد بدأ موسم الإنتخابات التمهيدية فى حملة الإنتخابات للرئاسة الأمريكية بالفعل، ويحمل معه فى الهامش عدداً من الدروس والعبر لإسرائيل أيضاً. فى يوم 1 فبراير اجتمع ديمقراطيون وجمهوريون فى حشد كبير فى ولاية أيوا لتقديم الدعم للمرشحين فى الولاية التى تبدأ السباق بشكل تقليدى. فى كلا الحزبين لم تثمر النتائج عن مؤشرات هامة فيما يتعلق بالشكل الذى من الممكن أن يتطور إليه السباق. لقد فازت هيلارى كلينتون فنياً بالفعل، لكن هذا كان بعيداً القيادة الذى تمتعت بها قبل أسابيع معدودة من ذلك. وقبل ذلك، من الجانب الآخر، فشل خصمها السيناتور بيرنى ساندرز من ولاية فيرمونت فى محاولة للفوز فى الولاية التى ذاع فيها صيت باراك أوباما فى حملة الإنتخابات لعام 2008. كما أن فوز السيناتور الجمهورى تيد كروز من ولاية تكساس كان مختلفاً عما جاء فى استطلاعات الرأى والعناوين الإعلامية لأسابيع، حيث حددت أن دونالد ترامب هو المتصدر.
بالنسبة للديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء، يبدو أن السباق يتبلور باتجاه منافسة بين المؤسسة والشعبويين الذين يتمردون عليها. فى الجانب الديقراطى فازت كلينتون فى ولاية أيوا بفارق ضئيل للغاية بينها وبين ساندرز. كلينتون أول امرأة تصبح سيناتور ووزير خارجية دخلت إلى السباق ودودة مع المؤسسة، بمميزات حقيقية من جانب كونها معروفة، ولديها دعم وتحظى بتبرعات. وساندرز البالغ من العمر 74 عاماً المولود فى حى بروكلين وهو يهودى الأصل والذى يصف نفسه بأنه ” اشتراكى ديمقراطى”، ليس هو الشخصية النموذجية لمرشح رئاسى لكنه يرتبط بالديمقراطيين على الأرض بفضل النقد الكبير الذى يوجهه لما يسميه سيطرة ” طبقة المليارديرات” على المؤسسات الإقتصادية والسياسية الهامة فى الولايات المتحدة. ساعدت الرسالة الجماهيرية ساندرز فى ولاية أيوا ومن المتوقع أن تمنحه دفعة أخرى أيضاً فى الأسبوع القادم فى نيو هامبشاير. لكن الحملة الإنتخابية تتحرك فى هذه الأثناء نحو الولايات الجنوبية، حيث يشكل هناك المصوتين من غير البيض الجزء الأكبر من الكتلة التصويتية للديمقراطيين. وفى أوساط هذه الكتلة التصويتية نجد أن هيلارى كلينتون أقوى وساندرز سيضطر إلى المسارعة فى خلق دعم يؤدى بالقادة الأفروأمريكيين إلى التضامن مع برنامج عمله اليومى، إذا أراد أن يبقى فى الصورة فى المنافسة. على الرغم من أنه لن يعترف بذلك، سيستفيد ساندرز من مايتم كشفه عن كلينتون واستخدامها للبريد الإلكترونى الخاص من أجل عملها.
إن الرواية التى تضعها ” المؤسسة ضد الشعبويين” تظهر أيضاً فى جانب الجمهوريين، هنا راية الشعبوية يتم رفعها منذ عدة أشهر عن طريق دونالد ترامب. لكن الملياردير ونجم برنامج الواقع فشل فى أن يوافق التوقعات فى التصويت بولاية أيوا. ويثير بذلك سؤال، هل البالون السياسى خاصته على وشك الإنفجار؟ وبدلاً منه كان تيد كروز، وهو محافظ متعصب لديه دعم كبير فى أوساط المسيحيين الإنجيليين، والذى حصل على أصوات الناخبين فى أيوا. رسالة كروز أقل شعبوية فى شكلها من الرسالة الخاصة بترامب، لكن لايزال يشكل تحدياً أمام المؤسسة الجمهورية، التى تبغض كروز لأسباب أيديولوجية وشخصية أيضاً.
المرشح الرائد من الناحية المؤسساتية هو السيناتور ماركو روبيو من ولاية فلوريدا. ويعتقد قادة الجمهوريين أنه بفضل كونه وجه شاب ومن أصل لاتينى يمكن لروبيو أن يوسع عامل الجذب للحزب ويعرض فى المقابل قيادة جادة ومتزنة. كما يبدو من الأمور الآن يتطور السباق إلى منافسة لها ثلاث رؤوس وهى:- روبيو (ممثل المؤسسة) ضد كروز ( المحافظ المتعصب) وترامب ( الشعبوى).
إن قوة الشعبوية المتمردة هي القصة المحورية الآن في الحملة الرئاسية، وهذا الجانب وثيق الصلة باستراتيجية إسرائيل في الدبلوماسية العامة التي تديرها في الولايات المتحدة. الشعبويون من اليمين ومن اليسار أيضاً يستمدون معاً قوتهم من الكساد المستعصي للدخل المتوسط في أمريكا، الذي لم يرتفع خلال ثلاثين عام. يسود بين الأمريكان من المنظومة السياسية اتفاق بأن المنظومة الاقتصادية للدولة قد أخفقت عندما نتحدث عن الطبقة الوسطى. يرى “ترامب” الحل في مكافحة الهجرة غير الشرعية وتصعيب الصفقات التجارية، كما يرى “ساندرز” الحل في تغيير السياسات الضريبية وفي منح تعليم عالي بالمجان، لكن كلاهما يتفق على جذر المشكلة: نخب استغلت عشرات الملايين من الطبقة الوسطى في أمريكا لصالحها الشخصي.
الجدل الآن هو في أساسه جدل داخلي، لكن من المحتمل أن تترتب عليه تأثيرات غير متوقعة حول السياسة الخارجية الأمريكية. يضع “ترامب” حداً بين التعاطي الضعيف للنخب السياسية مع الهجرة غير الشرعية، وبين عدم القدرة على التفاوض على صفقات تجارية وضعفها في مواجهة أعداء من الخارج. هذا المنطق أدى به إلى ترقية مستواه الخطابي بعد عملية الهجوم في باريس وفي سان بيرناردينيو، والدعوة إلى “نسف داعش” وحظر دخول زوار مسلمين. بالنسبة لـ “ترامب”، الشعبوية تقود إلى سياسة خارجية أكثر صرامة، على الأقل من الناحية الخطابية.
لكن الشعبوية الأمريكية بصفة عامة لم تميل إلى هذا الاتجاه. في المستقبل، على الأرجح أن النخب ستضطر إلى أن تبرر بمفاهيم أكثر وضوحاً كيف، على سبيل المثال، من المفترض أن يساهم التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط، وللشعور بأن المفهوم المجرد لأغلب “المصالح القومية” المعرضة للخطر إثر التعقيدات في دول أجنبية، يكتسب تفوقاً غير مبرر على الاحتياجات الأكثر مباشرة لـ “بناء الأمة في الداخل”.
ومع مرور الوقت، بوسع الشعبوية أن تتطور إلى هذا الاتجاه. وبعبارة أكثر وضوحا، تعتبر الشعبوية أقل توقعاً من السياسة الخاصة بالنخب، التي تميل إلى الاستمرارية والاستقرار في المنهج. في العقود الماضية، التفت سياسة النخب حول دعم العلاقة الوطيدة بين إسرائيل والولايات المتحدة. بالنسبة لإسرائيل ومؤيديها، هذا إنجاز قدير. بإمكان الشعبوية أن تكون أكثر تقسيماً. فبين الديموقراطيين، بمقدور الشعبوية أن تتصل بما يُسمى اليوم سحق دعم إسرائيل. إن الاستياء من إسرائيل والضغينة تجاه النخب قد يندمجان معا ليكونا سرداً بأسلوب “داود وجالوت”، وطبقاً له أعمال الظلم من قبل إسرائيل تحظى بتأييد النخب السياسية في أمريكا. يجدر بنا أن نشير إلى أن “ساندرز” لم يتخذ هذا النهج، على الأقل بالشكل المتطرف. وما زالت، الخطورة على المدى البعيد قائمة.
في الجانب الجمهوري، هذا الجانب الشعبي قد نشأ مع ظهور “دونالد ترامب” أمام الائتلاف الجمهوري اليهودي، عندما قال أمام الحضور إنهم على ما يبدو لن يؤيدوه “لأنني لا أريد أموالكم”. يطمس “ترامب” الخطوط حيال مسألة هل اليهود – بما فى ذلك إسرائيل – جزء من محاربة الإسلام، أم أنهم نخب لا تنتمى للطبقة العاملة البيضاء، التي يرعى “ترامب” تأييدها. إننا نتحدث عن الصيغة المعروفة جيداً لليهودية التي تخشى هذا في دول الشتات: شعبوية تنجرف إلى حدّ الضغينة (أو البحث عن كبش فداء) في صورة اليهود أو الدولة اليهودية. في أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، أخفق مثل هذا المفهوم بالفعل المرة تلو الأخرى، لكن الخيار مازال قائماً، كذلك أيضاً الخطورة بأن “ترامب” غير المتوقع قد يتجه إلى إجراءات صارمة وغير متوقعة لا تصب في صالح إسرائيل.
بالنسبة لإسرائيل ومؤيديها، الخيار الأمثل هو استثمار حيويتها المعروفة في السياسة الأمريكية، وبناء جسور مع حاملي المعجزة الشعبية دون المساس بالعلاقات مع المؤسسة. هذا هو التوازن المعتدل الذي حاول رئيس الحكومة الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” أن يحققه عندما وافق في ديسمبر على مقابلة “ترامب” خلال زيارته المرتقبة لإسرائيل، ويمكن فقط التقدير بأن يكون “نتنياهو” قد شعر بالارتياح عندما ألغى “ترامب” الزيارة ووفرّ عليه ضرورة الاختيار بين المرشح والمؤسسة. على “نتنياهو” وإسرائيل بأكملها أن يحافظا على العلاقات مع المؤسسة برمتها والمعسكرات الشعبية.
في أثناء الفجوة الحزبية المستمرة فى المواقف تجاه إسرائيل، فإن الحاجة للتوازن بين سياسة نخبوية وشعبية بارزة خاصة بين الديموقراطيين. إن إسرائيل سعيدة الحظ لأن البطل الشعبي لتلك الانتخابات هو “ساندرز”، الذي لا يشارك العداء تجاهها مثلما يشعر على ما يبدو كثير من مؤيديه. في السنوات المقبلة، يمكن ألا تصبح إسرائيل ومؤيديها سعيدي الحظ بقدر كبير. ففي المستقبل، ربما سيحاول شعبي ديموقراطي أو حتى جمهوري أن يذبح البقرة المقدسة التي تسمى العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، كجزء من محاولة السيطرة على كل قطيع البقر المقدس للنخب. ومع مرور الوقت، هذا الوقت سيفتت التأييد الشعبي الأمريكي لإسرائيل ويمس نسيج العلاقات المميزة.
في تلك الأثناء نحن بصدد وضع افتراضي فقط، وعلى إسرائيل أن ترحب بذلك ولكن لا يجب أن تبقى مطمئنة. إن المرشحين الصاعدين اليوم لمنصات المواجهات موحدين بلا استثناء على دعمهم لإسرائيل. ينبغي استمرار الجهود في بناء دعم شعبي، من شأنه أن يحافظ على أن تبقى هذه المنصات نصيرة لإسرائيل في المستقبل أيضاً.
معهد دراسات الأمن القومى
عوديد عيران وأوان ألترمان