إسرائيل -الجمهور ومحددى السياسات وكذلك الإعلام- من الصعب عليها توصيف الوضع الذى هى فيه منذ بداية العمليات الإرهابية الفردية فى سبتمبر 2015 . منذ شهر أكتوبر وبعد مايزيد عن 250 عملية هجومية ومحاولة هجوم، أكثر من 90% منها تم فى أعمال فردية. فى الحقيقة تم رصد انخفاض متواصل فى عدد العمليات الهجومية. لكن ليست هناك ملامح على اختفاء الظاهرة. الإحباط وعدم وجود أفق لدى الفلسطينيين فى الضفة الغربية والقدس يساهمون فى تلك الظاهرة وهناك أمر لايقل عن ذلك وهو أجواء العنف التى ينشرها تنظيم داعش فى الشرق الأوسط.
عندما نصطدم بظاهرة جديدة وليس لها تفسير، يكون هناك ميل للعودة إلى ماهو معروف لذا تمت تسمية الهجمات الإرهابية بالإنتفاضة. كان هناك من سمى الظاهرة “باتفاضة الأفراد” أو “انتفاضة السكاكين”، حيث أن معظم العمليات الهجومية الوحشية كانت عمليات طعن، لكن هناك شك فى أن يكون مصطلح “انتفاضة” مناسباً للواقع الذى نشأ.
المشترك فى الإنتفاضتين –وهما حادثين مختلفين فى الهدف والملامح وشكل التطور- كان مشاركة المجتمع الفلسطينى، كله تقريباً، فى المواجهة مع إسرائيل. واليوم يشاهد المجتمع الفلسطينى العمليات الهجومية من الجانب ويمدحها لكنه لاينضم إليها. تلاشت التظاهرات الحاشدة التى وقعت فى أكتوبر حول الوضع فى الحرم القدسى بحجة أن إسرائيل تسعى لتغيير الوضع القائم فى المكان. وهناك حالياً عشرات فقط يخرجون كل يوم جمعة لمواجهة الجيش الإسرائيلى.
إن منفذى العمليات الهجومية لم يتم إرسالهم من قبل تنظيم ووجد أنه لدى الكثيرين منهم حكايات تشمل على عنصر المعاناة والإحباط. هذا بالإضافة إلى أنه من خلال التحقيق مع القائمين بالهجوم الذين بقوا على قيد الحياة (حوالى 90) ظهر أنهم جميعاً استقوا ما فعلوه من وحى الإعلام بشكل ما؛ الإنترنت أو التلفزيون أو الصحافة والذى يجسد أمامهم الظلم الذى تمارسه إسرائيل على الفلسطينيين ودفعتهم إلى فعل ما. وكثيرون منهم على معرفة أو قرابة مع واحد من الفلسطينيين ال 180 الذين قتلوا فى نصف العام الأخير.
على عكس ماحدث فى الإنتفاضة الثانية، حيث مر غالبية المخربين بعملية تأهيل لعدة أيام آنذاك، فإن الموجة الإرهابية الحالية اتُخذ القرار بالعمل لفترة قصيرة قبل العملية الهجومية. إن من بين من قاموا بالعمليات الهجومية رجال ونساء، متزوجين ولديهم أولاد وغير متزوجين وأغلبهم ليس لديهم عمل.
إن تنظيم داعش يوجه هؤلاء الشباب؛ فالتنظيم بالنسبة لهم ينتج أجواء العنف المغامرة ويدعوهم للعب اللعبة المرعبة، والحصول على بركة الله. هؤلاء الشباب الذين هناك من يدعوهم فى الجيش الإسرائيلى بأنهم شباب مثقفين ومحبطين أو الفلسطينيين الجدد، يحتقرون كل مصادر السلطة؛ الآباء والسلطة الفلسطينية والتنظيمات الإرهابية المؤسسية وبالطبع إسرائيل. ويركز الحديث فيما بينهم على حقوق الإنسان الأساسية والتطلع لإنهاء الإحتلال، لكنهم لايهتمون بمخطط الحل بل و”التسهيلات” التى تمنحها إسرائيل للفلسطينيين. وقبل الخروج إلى القيام بعملية هجومية يطلبون ألا يعلن أى تنظيم مسئوليته عن الواقعة.
يبدو أن الإستخبارات الإسرائيلية المتنورة عاجزة أمام الهجمات الفردية. الإدارة الفاعلة التى تم بناؤها لتحديد التنظيمات الإرهابية أصبحت بدون فائدة، حينما يكون الأمر عبارة عن إرهاب غير منظم وقرار فردى، ليس له شركاء. كما أن الشفرات التى تم حلها لتحديد الفلسطينيين الذين يعبرون فى شبكات التواصل الإجتماعى عن رغبتهم فى التضحية بأنفسهم ليست فاعلة أمام عشرات الآلاف الذين يتحدثون الآن يومياً عن هذه الرغبة. كما أن الردع الإسرائيلى لايؤثر على رؤية منفذ الهجوم. يجب تخمين أن غالبية المخربين يفترضون أنهم لن يبقوا على قيد الحياة، لكنهم يعلمون أن عائلتهم ستحظى باحترام ومكانة اجتماعية وبدلات سخية مضاعفة وسخية من السلطة الفلسطينية ومن حماس (حوالى 10 آلاف – 15 ألف شيكل شهرياً). فى الحقيقة، إسرائيل تمنع ترميم منازل المخربين التى تم هدمها، لكن بجوار كومات الخراب تم بناء منازل جديدة ولاتبقى العائلات فى الشارع. ومن هنا فإن هدم المنازل، الذى ربما يغذى الشعور بالإنتقام من اسرائيل، لا يساهم فى الردع. ربما كان طرد عائلات المخربين إلى قطاع غزة ينشئ ردعاً معيناً، لكن هذه الفكرة تم منعها حالياً عن طريق المستشار القضائى للحكومة.
لاتزال تنجح السياسة العامة الإسرائيلية فى احتواء الظاهرة ومنع تمددها، لأن هناك 120 ألف فلسطينى يكسبون عيشهم فى إسرائيل والمستوطنات وليس لديهم مصلحة فى فقدان ذلك. وقد اتخذت الحكومة مؤخراً قراراً بمنح تراخيص عمل ل40 ألف فلسطينى آخرين. وينضم إليهم حوالى 170 ألف من العاملين الحكوميين فى السلطة الفلسطينية وكذلك 38 ألف من الفلسطينيين، الذين يخدمون فى الدوائر الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية. ثلاثة منهم قاموا بتنفيذ عمليات هجومية لكن أغلبهم على الرغم من أن بحوزتهم سلاح فإنهم يريدون الحياه. ومع ذلك، لأن الهجمات الإرهابية هى نتيجة للأجواء السائدة فإن مصطلحات “الموجة الإرهابية” و ” جولة العنف”، التى يستخدمها الجيش والإعلام، ليست مناسبة لوصفها. أجواء العنف هنا ولن تختفى قريباً.
إن مشاهدة هذه الأحداث من الجانب بواسطة رجال تنظيم فتح مثيرة ومأساوية جداً، وهو التنظيم الأكثر تسليحاً فى الضفة الغربية. وقد شارك رجال فتح خلال عدة أيام فى التظاهرات التى قامت شمال رام الله، لكن رئيس السلطة الفلسطينية أبومازن سارع إلى الإجتماع بأمناء سر حركة فتح فى الضفة وأوضح لهم أن هذه الأحداث لاتخدم النضال الفلسطينى. ومنذ ذلك الحين بقى عشرات الآلاف من المسلحين فى التنظيم خارج دائرة العنف. إنهم يحاربون بالنار ضد الجيش الإسرائيلى أثناء الإعتقالات التى تتم فى قلنديا ومخيم جنين لللاجئين. وعلى العكس، إذا انضم التنظيم إلى المواجهة ستكون أسرائيل أمام انتفاضة مسلحة، تستلزم منها إعادة احتلال المدن فى الضفة ونزع سلاح التنظيم. إن هذا لايحدث حالياً، لكن سلسلة الأحداث غير المقصودة أو اشتعال حرب وراثة عرش أبومازن من الممكن أن تحرك التنظيم إلى الخروج فى معركة أمام إسرائيل.
حماس أيضاً فى غزة بقيت خارج الأحداث. حماس تمول القائمين بالعمليات الهجومية، وتتوجهم وتنتج لهم مواد فيلمية للإرشاد فى عمليات الطعن لكنها لاتبادر بعملية من أراضى القطاع. إن فكرة معارضة إسرائيل لم يتم التخلى عنها، لكن حماس تبحث تسوية تحصن بها مكانتها فى قطاع غزة، وفى هذه الأثناء تقوم بحفر الأنفاق لوقت الحاجة، فى حين تحاول إسرائيل تطوير تقنيات لمواجهة هذه الأنفاق. ومع ذلك كلما استمر تجاهل دعوات التسوية التى تتصاعد من غزة فإن العد التنازلى نحو موجة العنف القادمة سيستمر.
هناك مجموعة أخرى من المحتمل أن تنضم إلى المواجهة وهم العرب من مواطنى إسرائيل. فى الحقيقة، منذ بدء الأحداث كان هناك تسعة من العرب من مواطنى إسرائيل هم من قام بتنفيذ أو محاولة تنفيذ عمليات هجومية. بالإضافة غلى ذلك، هناك 36 من العرب حاولوا الإنضمام إلى داعش فى عام 2015، عشرة منهم يقاتلون الآن فى صفوف التنظيم، وسيكون هناك من ينضم إليهم أيضاً. لكن غالبية السكان العرب فى إسرائيل، الذين تسمع فى أوساطهم دعوات بالتضامن مع منفذى العمليات الهجومية، كالتزام من جانبهم، ينظرون بحزن إلى غرق العالم العربى فى بركة من الدماء ويبحثون عن مستقبلهم فى إطار الدولة الإسرائيلية.
من يقود المواجهة مع إسرائيل؟ فى المقام الأول يأتى مواطنى القدس من الفلسطينيين . خرج المقدسيون لطعن اليهود فى الصراع حول الحرم القدسى، ومنذ ذلك الحين والعمليات الهجومية تستمر، لأن تنفيذها ليس معقداً. فى المدينة التى أعلنت إسرائيل أنها موحدة للأبد، ليس هناك فصل بين السكان الإسرائيليين والفلسطينيين، وهو ما يتيح لكل فلسطينى من قرية عقب أو من صور باهر للذهاب مسلحاً إلى غرب المدينة. فى الضم الإسرائيلى ل20 قرية وبلدية فلسطينية حول القدس ومنح بطاقات هوية إسرائيلية للمواطنين، ضمت إسرائيل إلى داخلها 300 ألف فلسطينى، لايتعاطفون معها وفى الوقت ذاته يتمتعون بحرية الحركة التامة. بعضهم يعيش فى الأحياء التى ليست بها بنية تحتية مدنية وإدارة تماماً. على مسافة عشر دقائق بالسيارة من الكنيست الإسرائيلى يقع مخيم شوعفاط للاجئين وبه 60 ألف مواطن. ليس به خدمات إجتماعية، ليس به منظومة تعليمية، بل وليس به إخلاء للقمامة. وهذه قنبلة موقوتة.
ما الذى يمكن أن تفعله إسرائيل؟
أولاً:- يجب أن تحسن من عملية الفصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وهو ما سيقلل من الإحتكاك وفرص وقوع عمليات هجومية. خاصة فى القدس ومحيط الخط الأخصر.
ثانياً:- يجب المبادرة بخطوات تجاه السلطة الفلسطينية تعمل على تغيير الأجواء؛ الجيش الإسرائيلى يشير إلى شمال السامرة وأريحا على أنها أماكن يمكن لإسرائيل أن تسمح فيها بالسيطرة الفلسطينية الكاملة.
ثالثاً:- يجب تحسين الردع ضد الأفراد عن طريق طرد عائلات المخربين-التى تُظهر تأييداً للعمليات الهجومية- إلى غزة، وهذه عقوبة قاسية متربطة بمسائل قضائية وأخلاقية كبيرة، لكن يجب تخمين أنه إذا علم المخرب بأن فعلته ستقضى بالمهانة على عائلته، فستزداد فرصة عدوله عن هذا الفعل.
الحكومة الإسرائيلية تختار حالياً طريق التصريحات الهجومية، والإستيعاب والعمل فى الحد الأدنى. وفى ظل غياب مبادرة إسرائيلية، تعمل على تغيير الأجواء وتؤدى إلى الفصل بين السكان فى مناطق الإحتكاك الأساسية، سيبقى ظهر إسرائيل مكشوفاً لعمليات الطعن الفردية.
ألون بن دافيد
معهد دراسات الأمن القومى