إن مدونة الحوار الإستراتيجى الخاصة بصحيفة هاآرتس جائت لإثارة مراجعة ونقاش مستنير فى قضايا الأمن القومى فى بيئة متخمة بطبيعتها بالغموض وعدم الوضوح. لذلك اتبعنا منهجية استخباراتية، وهى فصل إشارات الحقائق التى تقول لنا شيئاً ذا قيمة عن الضوضاء التى فى الخلفية وتشكل أرضاً خصبة للتشويش. فى القضية النووية الإيرانية استطعنا الإستعانة بمواد واضحة فضل المحللين الحكوميين عدم مناقشتها، لأنها لم تلائم توجههم المتخوف. كانت هذه بالأساس حقائق مستقاة من تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتسريبات من تقارير خاصة بالإستخبارات الأمريكية.

فى العديد من الحالات ظللنا فى نطاق غامض وبحقائق قليلة. عمل الإستخبارات ليس قليل فى حل الألغاز الإستراتيجية. سمى مشروع الإستخبارات البريطانية الذى كسر التوازن فى الحرب العالمية الثانية باللغز. هذه المرة سنحاول الفصل بين الإشارات والضوضاء التى فى الخلفية فى القضية التى يبدو أنها سياسية، لكن فى جوهرها هى استراتيجية، وهى قضية أمن قومى من الدرجة الأولى، نعم إننا نعنى لغز ترامب.

ضغط ترامب على جميع الأزرار الصحيحة فى مؤتمر الإيباك فى الأسبوع الماضى وحظى باستحسان الصوت اليهودى فى الولايات المتحدة، لقد وصف أوباما بأنه أسوأ رئيس بالنسبة لإسرائيل وسمى الإتفاق النووى مع إيران بأنه ” كارثة”. وقال أن الصواريخ الباليستية الخاصة بإيران تهدف إلى تهديد إسرائيل وأوروبا وبعد ذلك الولايات المتحدة. وسيكون هدفه الأول كرئيس هو إلغاء الإتفاق النووى الإيرانى. وهو سينقل بالطبع سفارة الولايات المتحدة إلى القدس.

لقد تطرقت صحيفة رئيس الوزراء “يسرائيل هايوم”، إلى معسكر مؤيدى ترامب كثيراً، لكن إذا كان هذا الأمر يعكس طريقة التفكير فى المكتب الواقع بشارع بلفور، فإن إسرائيل لديها مشكلة. فى عدد من اللقاءات هذا الأسبوع فى الإعلام الأمريكى كشف ترامب للمرة الأولى عن وجهات نظره فى المجال الإستراتيجى. لقد وجدنا هناك صورة مختلفة ومثيرة للقلق فيما يتعلق بأمن إسرائيل.

أعلن ترامب بأن إسرائيل التى تحظى بمعونة عسكرية سخية من الولايات المتحدة الأمريكية، سيكون عليها أن “تدفع من أجلها” وأن مثل هذا الطلب لديه من اليابان وكوريا الجنوبية. تداعيات هذا التصريح على قضية المعونة التى تقدم لإسرائيل سيتم مناقشتها لاحقاً. كما أن السعودية لن تحظى لديه بدعم عسكرى أمريكى إذا لم ترسل قوات برية لقتال داعش.

حكومة نتنياهو التى تصنف العالم وفقاً لمقياس ” اتفاق إيران السئ”، يجب عليها أن تنتبه. لقد وجد ترامب حقاً عيوباً فى الإتفاق النووى الإيرانى، لكنه أشار فقط إلى تغيير واحد ثانوى سيقوم بإدخاله إلى الإتفاق إذا تم انتخابه رئيساً وهو فرص حظر على تجارة إيران مع كوريا الشمالية. إضافة إلى ذلك، فإن اتفاق إيران “سئ” فى نظره، لأن أوروبا فقط ودول أخرى –وليس الولايات المتحدة- هى التى تربح من العلاقات التجارية الجديدة معها. سيحقق الرئيس ترامب للولايات المتحدة صفقة عملية أفضل.

لكن عقيدة ترامب تحمل فى طياتها مخاطر كبيرة لإسرائيل خاصة فى الأجزاء التى لاترتبط بنا مباشرة. يعارض ترامب منظومة التحالفات التقليدية للولايات المتحدة ويقترح تفكيكها أو على الأقل تقليل أبعادها. الناتو على حد قوله هو حلف قديم لايتناسب مع روح العصر (على وجه فلاديمير بوتين-الذى يزعم ذلك دائماً- ترتسم ابتسامة خفيفة). على الولايات المتحدة أن تخفض هذا الأمر وتقتطع الميزانيات التى تنقلها للحلف. يجب أن يتحمل العبء الهيئة الأوروبية وعلى رأسها ألمانيا. وفيما يتعلق بالتحالفات الدفاعية مع اليابان وكوريا الجنوبية يوصى ترامب بانسحاب القوات العسكرية الأمريكية المتمركزة هناك. إذا حدث ذلك فإنه سيكون حظاً وافراً لكوريا الشمالية.

يدعو ترامب بالأساس إلى انفصال الولايات المتحدة عن منظومة التحالفات الرسمية (الناتو، واليابان وكوريا الجنوبية) والوجود العسكرى فيما وراء البحار والذى صاغ النظام العالمى بعد الحرب العالمية الثانية. هذه دعوة لتفكيك الحلقة الأساسية فى السياسات الخارجية الأمريكية والتراجع عن المكاسب العسكرية التى كانت فى أساس الردع الأمريكى وساهمت فى الحفاظ على الإستقرار ومنع نشوب حروب كبرى فى المنطقة الأوروبية والشرق الأقصى. بالمفاهيم التاريخية فإن عقيدة ترامب إذا تحققت فإنها تشبه الفوضى التى أفرزها “الربيع العربى”.

أفكار ترامب فيما يتعلق بتفكيك التحالفات الدفاعية الرسمية للولايات المتحدة وإضعافها لها تداعيات فورية خطيرة على أمن إسرائيل. علاقاتنا المميزة مع الولايات المتحدة (على الأقل منذ فترة هنرى كيسينجر) تعتمد على تحالف غير مكتوب تشكل فى مجمله وفقاً لنموذج الناتو؛ أى بنية من الردع ومخططات عسكرية تعتمد على القيادة الأمريكية فى أوروبا والأسطول السادس فى البحر المتوسط. إن أى عدو فى الشرق الأوسط يعلم يقيناً أن الردع الإسرائيلى فى نهايته تتواجد قوة جيش الولايات المتحدة فى المنطقة. من أجل أن يظهر الردع تتم من حين لآخر تدريبات عسكرية مشتركة، وتقوم سفن الأسطول السادس بزيارة حيفا ويتم نصب الأسلحة الأمريكية فى أراضينا. وفى أوقات الطوارئ لدينا جنود أمريكان. وفضلاً عن مشاركتهم فى مهام دفاعية ضد الصواريخ تقوم القوات الأمريكية بلعب دور ” حجر العثرة” الذى يكون فى أساس أى تحالف، وهو إشارة لأى عدو بأن الإضرار المتحتمل بالمقاتلين الأمريكان ستحرك التحالف.

إن الوجود العسكرى الأمريكى فى الشرق الأوسط، الذى يريد ترامب خفضه وربما إلغاؤه، له دور هام فى الحفاظ على اتفاق فيينا الذى أغلق طريق إيران نحو السلاح النووى. فضلاً عن رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهى الأكثر توغلاً فى التاريخ النووى، فإن أدوات التوازن والأقمار الصناعية الأمريكية؛ الأسطول الخامس والقواعد الموجودة فى الخليج الفارسى والأسطول السادس فى البحر المتوسط هى أكثر وسائل الردع فعالية والتى تضمن تنفيذ الإتفاق. إذا حقق الرئيس ترامب أفكاره فنحن سنظل وحدنا بالفعل.

وصلنا إلى القضية النووية. الوجه الآخر لعملة التراجع الأمريكى عن التحالفات والوقاعد الموجودة فى اليابان وكوريا الجنوبية هو الرخصة التى يمنحها ترامب فى تصريحاته لكلتا الدولتين بتطوير سلاح نووى للدفاع ضد كوريا الشمالية والصين. عقيدة ترامب، والتى أساسها سلاح نووى إقليمى بدلاً من الإعتماد على القوة التقليدية الأمريكية، تمحو السياسة الأساسية للولايات المتحدة الأمريكية لمنع الإنتشار النوى وتفتح الطريق أمام سباق تسلح نووى فى آسيا فى آن واحد. لقد سمعت بالفعل فى كوريا الجنوبية دعوات بالتسلح النووى. ومن المحتمل أن تسمع همهمات الراحة المبدئية فى إسرائيل، مع الإبتعاد المتوقع فى أعقاب ذلك لقضية نزع السلاح النووى فى الشرق الأوسط. وهذه القضية التى أيدها الرئيس أوباما.

إن البعد النووى الإقليمى فى عقيدة ترامب يصحبه دافع آخر خطير وهو الرعونة التى لاتطاق فى تطرقه إلى استخدام السلاح النووى التكتيكى. فى لقاء مع وكالة بلومبرج لم يستبعد إمكانية استخدام السلاح النووى التكتيكى ضد تنظيم الدولة الإسلامية. فى رأيه، على الرئيس أن يعمل وفقاً لخطوط ” سياسة غير متوقعة” فى القضية النووية. استراتيجية ” غير القابل للتوقع مسبقاً” تشغل مكانة هامة لدى ترامب. وفى آن واحد يتم محو كل تفاهمات ميزان الردع النووى ونماذج إرسال رسائل، وتتم العودة إلى نموذج دكتور سترينجلوف الذى يعود إلى الستينيات.

من الممكن إعفاء تصريحات ترامب كأنها غير جادة وننسب له عدم الخبرة والجهل. لكن إنجازاته فى الإنتخابات التمهيدية واحتمالية أن يكون مرشحاً للحزب الجمهور لاتتيحح لنا بتجاهل المخاطر على النظام العالمى وإسرائيل (وهى مستفيد أساسى من النظام العالمى) والتى تنبع من تصريحاته فى مجال السياسات الخارجية والأمن. مايمكن أن يلحقه ترامب أيضاً إلى صفوفه هم مستشارين واستراتيجيين موقرين يدعمون مثله الإنعزالية الجديدة ويوقظوا السياسة الخارجية التى كانت هناك دائماً من سباتها وهى سياسة ” أمريكا أولاً”. ربما ولت أيام السلام الأمريكى، لكن الوصفة الإستراتيجية التى تقترح التراجع القاسى ليست حلاً جيداً للوضع الجديد.

على المدى الحالى تدفع تصريحات ترامب الحاجة إلى وقف عرض الرفض فيما يتعلق بالتوقيع على مذكرة تفاهم للمعونة العسكرية فى السنوات العشر القادمة. مخطئ رئيس الوزراء الإسرائيلى إذا علق آماله على تحقيق اتفاق أفضل للمعونة مع الرئيس القادم. فى الظروف التى وصفناها وحللناها فى عقيدة ترامب فعصفور فى اليد (3.5 مليار دولار) خير من عصفور افتراضى فى المستقبل الرئاسى غير الواضح (5 مليار دولار سنويا). إسرائيل تحصل حالياً على نصيب الأسد من المعونة العسكرية الأمريكية؛ 3.1 مليار دولار من إجمالى 5.9 مليار دولار سنوياً. وتحصل مصر على 1.3 مليار دولار والأردن 300 مليون دولار فقط.

بين قوسين ” التفسيرات التى تأتى فى الإعلام للخلاف العلنى (شئ غريب فى حد ذاته) بين الولايات المتحدة وإسرائيل حول اتفاق المعونة جزئية وليست كافية. التفسير المالى يتجاهل الإضافات المميزة التى حصلت عليها إسرائيل على مر السنين لصالح مشروعات خاصة كمشروع الدفاع الصاروخى.

ربما يكون العائق فى التوقيع على مذكرة التفاهم نابعاً من طلب وجود اتفاقات جانبية مرفقة باتفاق المعونة. على سبيل المثال، طلب الولايات المتحدة لوجود اتفاقات جانبية يلتزم فيها نتنياهو بحل الدولتين أو طلب نتنياهو اتفاق جانبى من الولايات المتحدة كتعويض عن الإتفاق النووى مع إيران. مثلاً طلب “اتفاق موازى” تحتفظ فيه إسرائيل لنفسها بحرية العمل فى توصيف الخروقات الإيرانية وطرق العمل المطلوب حال حدوث مثل هذه الخروقات. لن تستطيع الولايات المتحدة منح خطاب جانبى كهذا.

 

شموئيل ميئير- هارتس