17-4-2015

عاموس هرئيل

يخضع المحلل في الأجهزة الاستخباراتية الأجنبية – سواء كان أمريكياً أو من غرب أوروبا أو روسي لحالة يرثى لها، حيث يتطلب منه أن ينقل الاضطرابات المندلعة في أنحاء الشرق الأوسط إلى، مدرائه، بشكل مُنسق. وإذا كان تصنيف عدة قضايا مهمة في المنطقة كانت بينها علاقات متبادلة محدودة (الصراع الإسرائيلي- العربي، البرنامج النووي الإيراني، العلاقات بين مختلف الدول العربية) أمراً ممكناً في السابق، فإن السنوات الأربع الأخيرة كأنها حرب دائرة تقريباً بدون توقف، من العراق شرقاً وحتى ليبيا غرباً، وتنشطر إلى عشرات الصراعات الدموية الثانوية. هناك تداخلاً إقليمياً متغيراً بشكل محير للغاية، وصراع ينزلق إلى المواجهة المجاورة له ويؤثر عليه، ويكون لدى محللي المخابرات (ولقادتهم أنفسهم) قدرة محدودة على توقع الأحداث، فضلاً عن توجيهها.

تحدد المخابرات العسكرية الإسرائيلية أربعة معسكرات رئيسية تتصارع على السيطرة الإقليمية وهى :-

  • المحور الشيعي، الذي تقوده إيران مع سوريا وحزب الله.
  • الأنظمة السنية الرئيسية، التي تميل للغرب، والذين تصنفهم إسرائيل، وفق هواها، “معتدلين” (السعودية، ومصر، والأردن، وأغلب الإمارات الخليجية).
  • لاعبين مستقلين تجمعهم علاقات مع حركة الإخوان المسلمين (تركيا، وقطر، وحماس في غزة).
  • تنظيمات سنية – جهادية (القاعدة، وداعش، وعشرات الفصائل المحلية التي يتغير ولائها بين التنظيمان الكبيران).

 تزامنا مع ذلك، تستمر الصراعات الداخلية وتؤثر طوال الوقت على بعضها البعض. يؤثر تركيز جهود الدول السنية المعتدلة في اليمن حالياً، على قوة الحرب على داعش في العراق وسوريا، في حين تتخبط حماس بين استئناف التحالف مع إيران والتقرب إلى الكتلة السعودية – المصرية.

أغلب التركيز الإعلامي في الشهرين الأخيرين مُوّجه إلى اليمن، بسبب الوحدة المفاجئة للقوى العربية التي نجحت السعودية في حشدها هناك، في محاولة لصد زحف الانقلابين الحوثيين، المدعومين من إيران. لكن هناك تطوراً أيضاً في الحرب الجارية في سوريا – التي تعد المواجهة الأطول والأكثر ضراوة – في الفترة الأخيرة. فأغلب مقاتلي داعش قد رحلوا، على ما يبدو، عن مخيم اللاجئين في اليرموك، بالقرب من دمشق، لكن لم يتحسن وضع نظام “الأسد”. فقد تصدي الثوار بكل سهولة للهجوم الذي خطّطه النظام، بدعم إيران وحزب الله، على جنوب الدولة، من قرية “درعا” غرباً إلى “هضبة الجولان”. وما تزال دمشق مهددة ومحيط القصر الرئاسي يتعرض للقصف بين الفينة والأخرى، وهكذا- حرفياً – لا يستطيع الرئيس أن ينام في هدوء. أيضاً الغطاء الأمني الذي توفره إيران وحزب الله للأسد غير كاف. كما أن “بشار الأسد” غير قادر على الدفاع، باستمرار، عن كافة الغنائم التي بحوزته واضطر إلى الوصول إلى حل وسط وتقليل وجود قواته في المناطق التي يرى أنها أقل حيوية.

يثير قلق النظام حالياً أمران رئيسيان:-

  • محاولة الثوار المستمرة الوصول للمطار الدولي في دمشق (هم الآن يبعدون عدة عشرات الكيلومترات، لكن تتعرض المنطقة للقصف بين الحين والأخر)
  • المعركة التي على ما يبدو أنها ستتجدد في الفترة القادمة في منطقة جبال “القلمون”، على الحدود السورية – اللبنانية، من المهم للنظام الحفاظ على مسار تدفق تعزيزات حزب الله من لبنان، وبالتأكيد، السيطرة على المطار.

تلك قضايا تثير قلق إسرائيل أيضاً، نظراً لوجود مخازن الأسلحة الكبيرة بالقرب من المطار. في السنوات الأخيرة كان هناك عدة غارات جوية تم نسبتها إلى إسرائيل، دُمرت خلالها شحنات أسلحة كانت مخصصة لحزب الله في لبنان.

ومن ناحيته أوضح مصدر أمني إسرائيلي رفيع المستوى لـ صحيفة “هآرتس” خلال هذا الأسبوع قائلاً: “نحن مستمرون في التزام الحياد. ليس هذا بديهياً، لأنه ينبغي الحذر من السقوط في فخ الإغراءات لتحقيق مكاسب تكتيكية. لكننا أوضحنا لكافة الأطراف، علانيةً، بانه توجد خطوط حمراء لن نسمح بتجاوزها، وفي الحالات التي يكون هناك خطر ما على مصالحنا، من المحتمل القيام بتدخل محدود”.

يدور كل هذا بالتوازي مع الحملة الهجومية التي تقودها الولايات المتحدة على داعش، في العراق وسوريا. وعلى ما يبدو، حالياً، فإن وضع التنظيم المتطرف في سوريا أفضل بكثير منه في العراق، حيث انسحبت قواته من عدة مناطق وتم صد زحفه منذ الصيف الماضي. ولا تزال أسلحة الجو الغربية تهاجم مناطق داعش في العراق، في حين تقصفهم أسلحة الجو السعودية والأردنية في سوريا. ولكن على أرض الواقع، في العراق، هناك بالفعل تعاون غير مباشر بين الأمريكان وإيران (التي تساعد الحكومة وأغلب القوات الشيعية). وهذه مؤشرات أولية على نوع من الوفاق الأمريكي – الإيراني، على الأقل في قضية الحرب على داعش، وهو ما خشيت منه إسرائيل، حتى قبل أن يتبلور الإتفاقية الإطارية حول الملف النووي الإيراني.

قبل خروج القوات الشيعية للهجوم على “تكريت”، مدينة “صدام حسين” في شمال غرب بغداد، كان الجنرال “قاسم سليمان” قائد قوات “القدس” في الحرس الثوري الإيراني، هو من جاء ليبث روح القتال في الجنود. وفشل الهجوم الشيعي، الذي استند أساساً على قوات الميليشيا (كان “سليماني” قد قام بزيارة مماثلة إلى جنوب سوريا، عشية هجوم النظام هناك، وعلى ما يبدو أنه في الحالتين لم يحقق مكاسب كبرى لمعسكره). طلبت الحكومة العراقية، بعد الفشل في تكريت، دعم عاجل من الولايات المتحدة الأمريكية. وقد رهن الأمريكان المساعدة الجوية والاستخبارية بانسحاب الميليشيات واستبدالها بالجيش العراقي. وعندما تمت الاستجابة جزئياً لهذا المطلب، بدأوا بشن غارات جوية وأحرز الجيش العراقي انتصاراً عملياً، تم في تلك الحالة تنسيق أمريكي – إيراني غير مباشر، في إطار الحرب على داعش. وعززت أحداث تكريت الشك الأوروبي في أن الأمريكان، خلافاً لوعودهم، يجرون محادثات مع الإيرانيين في لوزان أيضاً بشأن تسوية إقليمية، وليس فقط بشأن اتفاق النووي.

إن المعارك الجارية في سوريا والعراق ليست بمعزل عما يجري في اليمن. فحزب الله، الذي تتحداه في الداخل منظمات سنية، ويكوّن ميزان ردع معقد مع إسرائيل، يأتي على مقدمة الجبهة التابعة لمعسكر الأسد في لبنان. ليس ذلك كل شيء؛ فإلى جانب الحرس الثوري، تقوم عناصره بتقديم المشورة، للقوات الشيعية في العراق. ومؤخراً، هناك أيضاً تقارير أمريكية موثوقة المصدر تفيد بوصول عناصر من حزب الله إلى اليمن، لمساعدة الانقلابين الحوثيين. وفي إسرائيل، يتشكل انطباع بأن المعركة السعودية في اليمن، لمساعدة الرئيس اليمني الحالي تحرز نجاحاً جزئياً. فتم صد زخم الانقلابين ولا يعرّض الحوثيون حرية الملاحة في مضيق باب المندب إلى الخطر في الوقت الراهن، وهي الإمكانية التي تؤرق الغرب وإسرائيل أيضاً.

لكن التصدي للنفوذ الإيراني، الذي يكثر التطرق إليه متحدثون رسميون في القدس مؤخراً، ليست القضية الوحيدة المتعلقة بإسرائيل في تطورات الحرب في اليمن. فالأردن، الشريك المقرب لإسرائيل، قلق من أن يؤدي تحول جهود المعسكر السني المعتدل إلى اليمن للإضرار بالحرب على داعش، القريب من حدودها ويشكل خطراً مباشراً عليها. أما المساهمة المصرية الموسعة في الحرب في اليمن، فمن شأنها أن تأتي على حساب المعركة التي تخوضها القاهرة على الإرهاب الذي يمارسه التنظيم الجهادي في سيناء، والذي يقلق إسرائيل للغاية.

قبل حوالي سنتين، بدت السودان دولة تابعة لإيران، تتيح للشبكة المتفرعة لتهريب السلاح، التي تديرها طهران، كي تسير دون عراقيل من خلال أراضها. السودان اليوم عضو في التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن. وبذلك اختل مسار التهريب الإيراني الرئيسي إلى قطاع غزة، والذي طاله ضرراً بالغاً، على أي حال، نتيجة الجهود المصرية في إطار تحديد أماكن الأنفاق في رفح. وتخوض مصر هذه الحرب بلا هوادة. فقد تم توسيع المنطقة الفاصلة غرب حدود القطاع بعرض أقصاه كيلومترين اثنين، وقريباً سيتم توسعته إلى خمسة كيلومترات، بعد اكتشاف نفق إلى القطاع، وقد تم تحديد فتحة خروجه على مسافة 2.800 متر داخل الأراضي المصرية. يتميز التوجه المصري ببساطته ووحشيته؛ بداية يتم تدمير كافة المنازل المتاخمة لحدود رفح المصرية. ويتم إنزال أقصى العقوبة على من يُعثر تحت منزله على نفق (تم مؤخراً الإعلان عن نية لفرض عقوبة الإعدام على الضالعين في تشغيل وإدارة الأنفاق). وإذا لم يُعثر على نفق، يحصل أصحاب المنزل على 300 دولار ورخصة لبناء منزل على قطعة أرض على مسافة أبعد عن الحدود.

تركز حماس كرهاً، في ظل غياب عمليات التهريب بشكل شبه كامل، على تطوير صناعة السلاح محلياً في غزة، وتقل جودة الأسلحة التي تنتجها تلك الصناعة عن السلاح النوعي الذي كانت تتلقاه من قبل إيران في السابق. وخلال عملية تصنيع الانتاج تستعين حماس بالأموال التي تضخها إيران لذراعها العسكري، وتنظيم الجهاد الإسلامي، وبالمواد التي تم تهريبها تحديداً من إسرائيل عبر معبر “كرم أبو سالم”، وبعد أن تم إخفائها على شكل بضائع تجارية مدنية شرعية.

هناك انعكاسات سلبية أخرى تترتب على الصراع من أجل السيطرة على العالم العربي. وقد أفادت وكالة الأنباء الفلسطينية “معاً”، الأسبوع الماضي، أن اليأس قد دبّ في إيران من القيادة السياسية لحماس وستركز من الأن فصاعداً على العلاقة مع ذراعها العسكري. نُشر هنا، بالأمس، أن الصدع يزداد داخل التنظيم بين الذراع السياسي والعسكري، أيضاً بسبب المواقف المختلفة بخصوص قضية اليمن. كما أبدت القيادة السياسية تأييداً علنياً لموقف السعودية، بينما آثر الذراع العسكري إيران.

وعلى ضوء ذلك، تستمر الاتصالات غير المباشرة في محاولة للتوصل إلى هدنة إنسانية طويلة الأجل في قطاع غزة. ويسعى وسطاء أجانب، من بينهم وسطاء من الأمم المتحدة ومن سويسرا، إلى الأخذ بإسرائيل وحماس للتوصل إلى اتفاق يوجب بوقف النار لعدة سنوات. أما في تلك الأثناء، يرفض الطرفان ربط أنفسهما بأي التزام، ولكن هناك احتمال معين لحدوث تطوّر واسع النطاق. وستعطي مهلة مماثلة الفرصة لحماس بأن تتعافى من أضرار الحرب الأخيرة في الصيف الماضي، أما إسرائيل فسيتم تخصيص الاهتمام والموارد للتركيز على احتمالية نشوب أية مواجهة على الجبهة اللبنانية، التي تعتبرها الأخطر.

سيتيح الاتفاق غير المباشر، إذا ما تم الوصول إليه، لرئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، أن يقوم بعرض الحرب كإنجاز يضمن هدوءً بعيد المدى، وخاصة على خلفية الانتقادات الموجهة إلى طريقة إدارة المعركة. ولكن كان أحد الأمور التي اتضحت إبان عملية “الجرف الصامد” هو الصعوبة التي واجهتها إسرائيل في استيعاب نوايا حماس، التنظيم الذي ينطوي على منظومة مُركّبة من التوازنات بين القيادة السياسية والعسكرية، وبين القيادة في القطاع والنشطاء في الخارج. ومن شأن الصدع الذي نشأ بين الذراع السياسي والعسكري في حماس، على خلفية علاقتها مع إيران، أن يجعل من الصعب جداً الوصول إلى اتفاق يوجب وقف إطلاق النار، وأن يشجّع القيادة العسكرية في ظل ظروف متطرفة على تنفيذ عمليات هجومية على إسرائيل.