يبحث المعلقون بحماس نقطة التحول التي ستحول إراقة الدماء المتواصلة إلى “الانتفاضة الثالثة”. وفى مقابل هؤلاء، كل من يعرف الواقع عن كثب يعلم أن التعريف عديم الأهمية، لأن هذا هو قمة جبل الشر، والعنف، والانتقام واليأس الرهيب. طالما أن الدماء التي تُسفك هي دماء الفلسطينيين فقط، فاليهودي سيتصرف كعادته. وعندما فقط ازداد تعداد الضحايا اليهود انتفض أيضاً السياسيون ونفخوا في أبواقهم الإعلامية. هكذا الأمر عندما يكون هناك ثمن مختلف لحياة بشر مختلفين.
بالضبط مثل عروض داعش. طالما أنهم ذبحوا وذُبحوا في فنائهم الخلفي، فلن يلتفت إليهم أحد، بل على العكس جميعهم يتمتع بسفسطائية من قبيل “التمنيات بالتوفيق لكل الأطراف”، وتمادوا في التجاهل. وفقط من اللحظة التي اختُطف فيها عدة مواطنين غربيين وقُطعت أعناقهم ثار العالم. أعلن وزراء إسرائيل بحمقهم، والزعيم الأعلى على رأسهم، مراراً وتكراراً أنه من الممكن إدارة الصراع للأبد، وأن الصعود إلى الحرم القدسي ليس إشكالي، وأن السلطة الفلسطينية ليست شريكاً، وأن الاستيطان فوق الجميع، والضغط الدولي لا شيء. لقد كان هنا كل شيء رائع بعيداً عن الواقع، الذي رفض أن يقبل سياسة الأكاذيب والوهم.
والآن، عندما انفجر البركان مجدداً، ولو بقوة ضئيلة كما في تلك الأثناء، هناك فرصة لأن نسأل: لماذا يحدث ذلك؟ سنقول إن الفلسطينيين حقاً أشرار، بل أكثر الناس شراً على الإطلاق. وسنقول إن اليهود حقاً طيبون. بل أكثر الناس طيبة (“فقد وعدهم أولمرت بكل شيء”)، “ثم ماذا، هل سوريا أفضل لهم؟”، على العموم، “من مازال يكترث لهذا الصراع؟ لقد ولّى زمنه!”) مازالت هناك مشكلة أساسية ترفض أن تزول بسببها المشاكل.
إسرائيل، الأقوى من الجميع، إنها لم تجب على ثلاثة أسئلة بسيطة طرحتهم على نفسها: ما الذي نريد أن نفعله حقاً مع الأراضي المحتلة ومواطينها؟ ما الذي نريد حقاً أن نفعله مع عرب إسرائيل؟ وماذا الذي نريد أن نفعله حقاً مع القدس، والمقدسيين غير اليهود الذين يعيشون فيها؟
ما يحدث اليوم في الشوارع والأسواق هو رد فعل غاضب على إسرائيل التي لا تعرف السؤال ولا الجواب. مثيرى الشغب من الفلسطينيين واليهود موجودون في كل مكان: في الأراضي المسلوبة، في القدس الشرقية المُهمَلة، في الشارع العربي-الإسرائيلي المتضرر، كذلك أيضاً في مقاطعات الهمجية والعنصرية اليهودية. من دون إجابة في الأعلى، جاء ردهم في الأسفل. يجب الإنصات إلى صوت الشعب.
إن الجمهورين – اليهودي والفلسطيني – يريدون إجابة. إن أردتم ضم الأراضي المحتلة، حسناً رجاءاً استكمال الطريق إلى آخره – بقانون ونظام، واستثمارات، وبنى تحتية، ومحكمة عليا وانتخابات للكنيست. إن أردتم أن تعيدوا الأراضي المحتلة، على الرحب والسعة، ولكن حتى النهاية – أعيدوها بالحدود، والعاصمة، والسيادة، والمؤسسات، والحرية والاستقلال التام الفعلي. لكن كلاهما معاً – ضم فعلي للأراضي المحتلة وعدم الحكم الفعلي – هذا حقاً غير مجدي.
لدى أغلب الفلسطينيين الإسرائيليين، ولاء لجنسيتهم أكثر من ولاء دولتهم لهم كمواطنين، لكن هذا حقا لا يهم المندفع اليهودى (المتواجد في كافة أرجاء القوس السياسي، من قلب العمل، مروراً بيش عتيد، وحتى ائتلاف اليمين). بألسنتهم، إسرائيليون كثيرون مازالوا يثرثرون عن “الديموقراطية الوحيدة”، لكن “في قرارة أنفسهم” يحلم أغلب اليهود باليوم الذي فيه “هؤلاء العرب يختفوا من أمامهم”. يتضح أنه في البون الشاسع بين السيكولوجيا العنصرية والبلاغة الكاذبة يكمن التقصير، والإهمال، والتجاهل، والتفاخر، ومنها ينشأ الظلام الذي بداخل الغرائز البشرية.
والقدس، يا قدس. المدينة المقسمة قسمين في الوقت الذي تكون صخرة وجود الائتلاف الإسرائيلي دينية وتحكم نظريات الهيكل في الكنيست والحكومة، في الوقت الذي يتلقى فيه مخبولون يهود من رئيس الحكومة ووزراءه تصريحاً بأن يضرموا نيران الفتنة بالقرب من فتيل القنبلة الدينية في الحرم القدسي، وكل ذلك في الوقت الذي تخضع فيه الساحة الإقليمية بأكملها لعاصفة دينية هوجاء – لا عجب أن الصراع تحول أمام أعيننا إلى صراع ديني-أصولي، بلباقة رئيس الحكومة ووزراءه. إن الكلمات القديمة والذابلة عن المدينة الموّحدة لم تعد تنجح في التسبب في الخداع الشخصي الذي تعودنا عليه. القدس الحقيقية، قدس القيادة، قالت كلمتها. بالنيران والزجاجات الحارقة.
إن الثلاثة مجالات المذكورة أعلاه تستلزم رؤية، وتفكير استراتيجي، وجرأة فكرية وقدرة قيادية بقدر الحجم التاريخي. وفي هذا الوقت بالتحديد ليس هناك في إسرائيل من بمقدوره أن يقوى على هذا التحدي. والنتيجة؟ في كل مكان تنسحب منه الدولة تتحول السلطة الأغلبية إلى سلطة الأفراد، اليهود والفلسطينيين على حد سواء. إن الواقع الحالي ما هو إلا الانعكاس الأكثر تأثيراً لـ “استراتيجية الأفراد”. أي يهودي حاد الانفعال معتمر للكيباه ومُزود بوعاء وعلم يصعد على تل ويقرر حدّ سياسي، يلزم مجالس وزراء الدولة التي تخشاه. أي مشاغب يطعن أناس في شوارع المدينة يجرّ وراءه إسرائيل والسلطة الفلسطينية إلى الفوضى (التي لا تقّل اضطراباً عن جارتها المحتلة). مليشيات مشاغبة “أيديولوجية”، وطاعنون يتصادفون، ومنفذي عمليات قتل خارج إطار القانون، وحاخامات وأئمة مساجد، مطلقو نيران وراشقو حجارة بارعين أصبحوا هم من يحددون الاستراتيجية والسياسية للمشروع السياسي القائم ما بين الأردن والبحر.
“نتنياهو” ليس ملكاً، وطبعاً في تلك الأيام ليس هناك ملك في إسرائيل، ولا ملك في فلسطين، وكل رجل وامرأة يفعلون ما يحلو لهم. فقط إن واجهنا بصدق الأسئلة ستتوقف الانتفاضة اللانهائية، انتفاضة محددي الاستراتيجية من الأسفل، انتفاضة المطالبين بإجابة.
أبراهام بوريج- هارتس