يوئيل جونسكي ونيتسان فلدمان

حدث إنخفاض أسعار النفط – من 115 دولار للبرميل (في يونيو 2014) وحتى أقل من 60 دولار للبرميل (في مارس 2015) –  بعد رفض منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) تقليل الإنتاج. وأحد مبررات رفض دول الخليج وقبولها بالإنخفاض الحاد في عائدات النفط على المدى القصير، هو رغبتهم في الحد من تأثير ثورة الطاقة التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية والتى نجحت منذ عام 2008، نتيجة للتطورات التكنولوجية البارزة، في زيادة نسبة إنتاجها من النفط بحوالي 50 %.

تستند دول الخليج في رغبتها لخفيض سعر النفط بشكل جذري على إحتياطيات النقد الأجنبي الذي إدخرته في السنوات الأخيرة. وعلى الرغم من أن تلك الإجراءات التي من شأنها الحد من وتيرة الإستثمارات والتطور في قطاع الطاقة في أمريكا، ومن المحتمل أن تضعف حاجة إقتصاديات دول الخليج في إجراء تغييرات كبيرة فى بنية إقتصادهم، وعلى المدى الزمني المتوسط يُحتمل أن يُحدِث الإنخفاض السريع في أسعار النفط تغييراً في سياسة الدعم التي تقدمها تلك الدول لمواطنيها.

في منتصف القرن الماضي حولت أرباح النفط قرى الصيادين في الخليج إلى أغنى الأماكن في العالم. وهناك فى المتوسط أكثر من 40 % من إجمالي الناتج المحلي لدول الخليج و80 % من دخل الحكومات يأتى من أرباح بيع البترول والغاز. وهذا الدخل يتيح لحكومات الخليج منح مواطنيهم دعماً حقيقياً. في تلك الدول الريعية تمنح الأنظمة الحاكمة بضائع وخدمات مجانية أو مدعومة لمواطنيها. ولا يفرضون ضرائب بالمعنى المتعارف عليه على المواطنين، الذين ليس لديهم حقوق سياسية حقيقية. ويختلف مستوى الدعم المقدم للمواطنين من دولة إلى أخرى حسب دخلها: فالبحرين (التى تعتمد في دخلها على حقل بترول سعودي) أو عمان (تصدير البترول لديها منخفض وليست عضوة في منظمة الأوبيك) يمنحان لمواطنيهم أقل مما تعطي الدول الغنية بكثير أمثال – المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر والكويت. ولاتزال على أى حال حتى الآن مبالغ مالية ضخمة.

بالإضافة إلى أنه منذ أن بدأت التوترات في الشرق الأوسط، أتاحت إحتياطيات النقد الأجنبي الضخمة التي أُدخرتها خلال إرتفاع أسعار البترول في العقد الماضي، لحكومات الخليج دفع مبالغ كبيرة لمواطنيهم لتهدئة التوترات الإجتماعية السياسية. فقد علمت تلك التوترات الإقليمية الملوك في الخليج درساً هاماً، وهو أن إرتفاع أسعار الطاقة بشكل حاد يُعتبر إنتحاراً سياسياً. ولكن إنخفاض أسعار البترول يصعب على الأنظمة الحاكمة تحقيق أهداف الميزانية المخططة والحفاظ على سياسة الدعم.

إذا لم تعاود أسعار البترول الإرتفاع، فسيكون خفض الدعم مسألة وقت. وذلك بسبب زيادة الطلب المحلي ورغبة تلك الدول في زيادة إنتاجها من البترول، وأيضاً الإنخفاض الحاد في الدخل من بيع البترول في السنة الماضية. وإثباتاً لذلك فإن سعر برميل البترول المفترض للمحافظة على ميزانية متوازنة في تلك الدول يزداد بإستمرار مع زيادة إلتزاماتهم. وحسب تقدير صندوق النقد الدولي فإن إقتصاديات البترول في الخليج من المتوقع أن تخسر في عام 2015 حوالي 300 مليار دولار من دخل البترول، أو حوالي 21 % من إجمالي الناتج المحلي لها بسبب إنخفاض أسعار البترول في الأسواق. فإنخفاض الدخل الناتج عن عملية تصدير البترول من المتوقع أن يؤدى إلى تقليل الفائض في الحساب الجاري يصل إلى 1.6 % من إجمالي الناتج المحلي، وهذا في مقابل فائض حوالي 16 % من إجمالي الناتج المحلي عام 2014. وبعد سنوات طويلة كانت أسعار البترول فيها مرتفعة ومكنت دول الخليج من الإستمتاع بالفائض الكبي في الميزانية، سيؤدى الإنخفاض المتوقع في الدخل إلى متوسط عجز بحوالي 6 % من إجمالي الناتج المحلي في دول الخليج في السنة المالية القادمة.

هذا الإتجاه يثير تساؤلاً حول المسار الذي ستسلكه دول الخليج على أساس منع الإنزلاق نحو عجز شديد بعد التناقص التدريجي في الإحتياطيات والذي سيحدث إن بقيت أسعار البترول منخفضة ولم يتم خفض نفقات الحكومات. التساؤل هنا حيال بنود النفقات التي سيحدث فيها تقليص بسبب اعتبارات الكفاءة الإقتصادية، وهناك أمر لايقل عن ذلك فى أهميته وهو أن ذلك سيشكل تحدى اقتصادى سياسي حقيقي أمام حكومات الخليج.

ومن الآثار الجانبية لسياسات الدعم هذه كانت الإنتاجية المنخفضة ومشاكل المواصلات والبطالة والتلوث الجوي المرتفع (ويقدر البنك الدولى أن إلغاء الدعم سيقلل من الإنبعاثات التي تلوث الغلاف الجوي بنسبة 15 %). لا عجب إذا حفزت المؤسسات الإقتصادية خلال سنوات دول الخليج لوقف سياسة الدعم. ولكن في حين أن تقليص الدعم في دول الخليج سيلقى إستحسان لدى صندوق النقد الدولي – وربما أيضاً وكالات التصنيف الإئتماني – ويحتمل أن تلقى معارضة سياسية حقيقية من المواطنين.

تنتج دول الخليج حتى حوالي 11 % من إجمالي الناتج المحلي لديها لدعم قطاع الطاقة، ويبلغ حوالي 160 مليار دولار في السنة (للتوضيح، يبلغ سعر جالون البنزين في المملكة العربية السعودية حوالي 45 سنت، أى أقل من سعر زجاجة المياه). والإستهلاك المحلي في المملكة العربية السعودية على سبيل المثال من المتوقع أن يزيد من ثلاثة ملايين برميل بترول إلى ثمانية ملايين برميل بترول في اليوم حتى عام 2030. لذلك ستتطلب موارد أكثر وأكثر كي تكفي الطلب المتزايد. وبعد ذلك ستصبح المملكة مستورِدة للبترول إذا لم يكن هناك تغيير جذري في سياسات الدعم.

في الخليج بدأت الكويت وعمان والإمارات العربية المتحدة بحث الإجراءات اللازمة لخفض الدعم وكانت الكويت أول من قام بالخطوة الأولى نحو خفض الدعم. ففي يناير 2015 قامت برفع أسعار بعض أنواع الوقود من بينها الديزل. والنقاش حول هذا الموضوع في الكويت حثيث بشكل خاص، بسبب الإنفتاح السياسي النسبي وسلطات البرلمان الموسعة نسبياً. وفي عمان التي يتعرض الإستقرار السياسي فيها للخطر الآن بسبب مرض السلطان قابوس،يتم بحث مسألة تنويع مصادر الدخل مثل زيادة الضرائب غير المباشرة المفروضة على الأجانب وخصخصة الشركات. والبحرين الذي يُعتبر إقتصادها الأكثر تنوعاً من بين دول الخيلج، تعاني من عدم الإستقرار السياسي الذي يؤدي إلى صعوبة حل أي مشكلة. وبالنسبة للدولتين الأخيرتين يُتوقع أن تدعمهما دول الجوار الغنية مثلما فعلوا حين إندلعت الثورات. وفي أي حال الخوف من الإحتجاج العام والنقد من جانب المعارضة عقب خفض الدعم -مثلما حدث في الأردن وإيران-، أبطأ من عملية اتخاذ خطوات فى هذا الشأن.

وبخلاف التأثير المباشر على إقتصاديات دول الخليج نفسها بسبب إنخفاض أسعار البترول، هناك تأثير غير مباشر على إقتصاديات دول عربية أخرى تنعم بدعم دول الخليج. وهذا يتمثل في إستثمارات ومنح وقروض تقوم بها العائلات المالكة في الخليج للإقتصاد المصري والأردني على سبيل المثال والإيرادات من الزيارات السياحية من الخليج، ومن الأموال التي يرسلها مواطني تلك الدول الذين يعملون في الخليج.

وتجدر الإشارة إلى أن الأسواق المتطورة خارج الخليج، ومن بينهم الأسواق في مصر والمغرب وتونس والسودان بدأت بالفعل في الشهور الأخيرة فى تقليص دعم الوقود والمياه والكهرباء الذي يُمنح للمواطنين.

فعلى الرغم من تقدم بعض الدول في التنوع الإقتصادي إلا أن ارتباط اقتصاد دول الخليج بالأرباح الناتجة من البترول لايزال مطلقاً وإستقرارهم السياسى أصبح يتعلق بشكل مباشر بمستوى المعيشة المرتفع، والذي يتمتع به المواطنين. والحالة العامة التي نتجت عن الثورات العربية كشفت عدم رضى الشعوب المحلية عن البطالة المتزايدة والفقر المسيطر على قاعدة عريضة، وهو مايتم إخفاؤه عن الرأي العام. لذلك الإنخفاض في أسعار البترول أكد على حاجة تلك الدول لإتخاذ خطوات طموحة، والتي من شأنها تأمين مستقبلها الإقتصادي بعد البترول. وهذا خصوصاً في الوقت الذى لم يعد فيه النظام السياسي القائم في العالم العربي كما كان ينظر إليه بأنه “غير قابل للتغيير”. وإن كانت مخاطر قطاعات البترول في الخليج ليست كارثية على المدى القصير، نجد أن الإعتماد على الأرباح من البترول يمثل تحدي حقيقي أمام إستقرار الأنظمة الملكية في الخليج على المدى البعيد.

العراقيل السياسية المتعلقة بالمساس بسياسات الدعم من الممكن أن تدفع دول الخليج إلى تقليل النفقات الحكومية عن طريق تقليل الإستثمار الحكومي، والتى يتم توجيه بعضها لقطاعات اقتصادية أخرى ليس لها علاقة بالطاقة. وعلى الرغم من أن تلك السياسات من الممكن أن تؤدى إلى تقليل الضغط السياسى، إلا أنها ستضع عائقاً آخر أمام دول الخليج على مواجهة الواقع الذى نجد فيه أن أسعار النفط منخضة، وإذا قررت الحكومات على الرغم من ذلك كله إجراء تغييرات حقيقية فى سياسات الدعم، سيتطلب الأمر منها توجيه جزء من الميزانيات إلى القطاعات والطبقات المحتاجة، وذلك لإبعاد أى إحتجاج شعبى محتمل.